يتجاوز عدد كليات العلوم الصحية في المملكة اليوم أكثر من 100 كلية، ما بين كلية طب وصيدلة وطب أسنان وعلوم طبيبة مساعدة، جميعها تدرس مقرراتها العلمية بغير لغتنا الأم! لست أجادل هنا بأهمية التدريس باللغة العربية، ففوائد التدريس باللغة الأم أكثر من أن تحصى، وأثرها الإيجابي على فهم وإدراك الطلاب أكبر، ومثبتٌ بالأبحاث العلمية المنشورة، ومنها تلكم الدراسة الشهيرة التي أجرها الدكتور زهير السباعي قبل عدة سنوات في كلية الطب بجامعة الملك فيصل، حينما قسمت فئات الدراسة (الطلاب، أطباء الامتياز، الأطباء المقيمين) إلي مجموعتين اثنتين، وأعطت لكل مجموعة مقالا طبيا لقراءته لمدة ثلاثين دقيقة، الأولى يقرؤونه باللغة العربية والثانية باللغة الإنجليزية، وطُلب منهم تحديد الكلمة التي يقفون عندها في قراءتهم، ثم بعد أربع ساعات عُقد امتحان قصير لمعرفة مستوى الاستيعاب، وبعد أسبوع أعيدت التجربة بتوزيع مقال طبي آخر، ولكن بعد عكس المجموعتين وبنفس الإجراءات لوحظ أن متوسط القراءة باللغة العربية بلغ 109.8 كلمات في الدقيقة، بينما كانت باللغة الإنجليزية 76.7 كلمة، أي بفارق يتجاوز 40 % لصالح اللغة الأم! أما الاستيعاب فكان لصالح اللغة العربية بنسبة تزيد على 15 %. والشواهد كثيرة ومتعددة على ذلك، خصوصاً إذا ما علمنا نسبة المصطلحات الطبية في كتب العلوم الصحية لا تتجاوز نسبة 3.3 % من مجمل الكتاب! غير أننا اليوم مطالبون باقتناص الفرصة العظيمة التي وفرها لنا التوسع الهائل في أعداد كليات العلوم الصحية على امتداد المملكة، لإطلاق مشروع وطني متواصل لترجمة الكتب والمراجع الصحية إلى لغتنا العربية، فاليوم لدينا - والله الحمد - أعداد ضخمة ومؤهلة من الأطباء والصيادلة الاستشاريين وأخصائيي العلوم الطبية المساعدة، وهم قادرون ليس فقط على ترجمة ومواكبة آخر ما ينشر في مصادر معلومات ومجلات علمية محكمة، بل حتى الإضافة للتقدم العلمي. كم أتمنى أن يأخذ مَجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في الرياض قصب السبق في تبني تعريب العلوم الصحية بالتعاون مع كليات العلوم الصحية بالمملكة وبالذات العريقة منها، ليؤكد ريادة المملكة في محيطها العربي والإسلامي، عبر قيادة الجهود المبعثرة في عموم الوطن العربي كله لإنجاز هذا الهدف الأسمى وتشجيع وسائل الإعلام على تبني المصطلحات العربية ودعم المحتوى الرقمي العربي، ولتحقيق هدف المجمع بإبراز مكانة اللغة العربية وتفعيل دورها الإقليمي والعالمي. من الرائع التوجيه المؤسسي لحماسة المختصين الصحيين جنباً إلى جنب مع علماء وخبراء اللغة، للاتفاق على ترجمة أو تعريب المصطلحات العلمية الحديثة، عبر استغلال مساهمات الحشود، التي أضحت أسهل وأدق مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتقدمة. لدينا اليوم فرصة تاريخية لرفع مستوى مخرجات مسار تعليم العلوم الصحية، التي لا يمكن أن تتوسع وتتعمق في مجتمعنا ما لم يكن وعاؤها لغتنا الوطنية. نقلا عن الرياض