كتب مصطفى أمين في أحد مقالاته: كنت طالباً في الولاياتالمتحدة الأميركية ورأيت يومها رجلاً فلسطينياً لا يقرأ ولا يكتب، وقد أصبح يملك أطول ناطحات السحاب في واشنطن، بدأ حياته في فلسطين طفلاً يتيماً يجري وراء حمار يركبه السياح. أعجبت به سائحة أميركية عجوز، وعرضت عليه أن تأخذه إلى أميركا فقبل. وركب الباخرة في الدرجة الثالثة يحلم ببلاد العجائب، في أثناء الرحلة ماتت العجوز، ووصل إلى نيويورك لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، ولا يعرف اللغة الإنجليزية. مشى في الشوارع على غير هُدى، وتوقف أمام عمال بناء يبنون بيتاً وتقدم لمساعدتهم دون أن يطلبوا منه المساعدة، وأعجبوا بنشاطه وذكائه وصبره وقوة احتماله فتركوه يعمل معهم وشاركهم طعامهم، وجاء الليل ونام على الأرض في برد الشتاء القارص في نيويورك. قبِل كل عمل عهدوا إليه به، كان يحمل الأحجار على ظهره ويبني ويحرس الطوب، وفي الحقيقة كان في هذا الكفاح يتعلم مهنة ويبني شاباً ناجحاً، وأصبح رئيس عمال، ثم انتقل إلى واشنطن ونافس المقاولين الأميركيين وأصبح بعد سنوات صبر وكفاح مرير أكبر مقاول عمارات في واشنطن وهو لا يقرأ ولا يكتب، أو كما قال ذات مرة: أن الوقت الذي يلزمني لتعلم القراءة والكتابة أستطيع أن أبني فيه ثلاث عمارات. حين قرأت ذلك تذكرت حديثا دار بيني وبين واحد من أكبر التجار العصاميين في المملكة، ذلك هو حمود الخلف الذي قابلته في مزرعته التي تعد من أكبر مزارع الأغنام في نيوزيلندا حيث قال لي: أعرف أنك هنا للتحدث مع الطلبة المبتعثين، أرجوك حدثهم عن الصبر وأهميته، ويضيف: لقد عملت في شبابي من الصباح حتى المساء بريالين فقط، وفي هذه الأثناء رفع يده وحرك إصبعيه لتأكيد المبلغ الذي كان يتقاضاه في بداية حياته العملية، ويقول: صبرت على العمل الشاق لسببين "الحاجة ورغبتي في التعلم"، ولم يكن لدي سوى الشهادة الابتدائية، واليوم والحمد لله أملك البواخر والمزارع ويعمل عندي حاملو الماجستير والبكالوريس، ثم كرر: ركز في محاضراتك على قيمة الصبر من أجل اكتساب الخبرة، وأكد عليهم أن الخبرة لها ثمن وهو الصبر والممارسة. إن من يتتبع سير الناجحين في مجالاتهم يجد أنهم أمضوا في التدريب أثناء العمل ما لا يقل عن خمس إلى سبع سنوات من التدريب الشاق ومع أفضل نظام اخترعه البشر في التدريب وهو نظام "التلمذة المهنية" والذي وجد منذ العصور الوسطى، ومنه قولنا تتلمذ على يد فلان، أي أنه لزم التعلم على يديه بالتكرار والتطبيق حتى أتقن ما تتلمذ من أجله، ومثله الشاب الذي يرث المهنة من أبيه فهو يتتلمذ على يد أبيه منذ الصغر حتى يتقن المهنة، فتعلم المهارات هو نفسه لم يتغير وأساسه تدريب عميق وصبر وتلمذة على من لديه الخبرة والإتقان. يقول الأديب الروسي دوستوفسكي: "لا يمكن للإنسان أن يتعلم فلسفة جديدة أو طريقاً جديدة في هذه الحياة دون أن يدفع الثمن، وإن ذلك يتطلب ثمناً غالياً ولا يمكن الحصول عليه إلا بالكثير من الصبر والكفاح". المستقبل ملك أولئك الذين يتقنون المهنة ويتعلمون المزيد من المهارات، والدماغ البشري يعمل في توافق مع ما تقوم به اليد والعين وكما يقول العلماء فإن جزءاً كبيراً من الدماغ مخصص لهذه العلاقة، ويتطور مع التدريب العميق والممارسة، لذا يجب أن نخصص جزءاً من الوقت لتمرين يدينا على العمل. أحياناً تقف العادات وثقافة المجتمع عائقاً أمام التعليم والتدريب المهني بازدراء العمل اليدوي لاعتقادنا أن المهارة اليدوية هي لمن هم أقل ذكاءً، وهذه النظرة لها آثار سلبية على توطين الوظائف المهنية ومكافحة البطالة. المفهوم الخاطئ الثاني هو أن التقنية تجعل كل شيء أكثر سهولة، وهذا غير صحيح، فالتغييرات تأتي متسارعة وعلى المتدرب أن يستمر في التعلم، كما أن الأعمال أصبحت أعقد كثيراً من السابق، حيث تخضع لممارسات شرسة من خارج الحدود، وهو ما يتطلب رؤية واسعة ومزيداً من المعرفة وإتقان المهارات، واطلاع على آخر المستجدات. التحول من التلقين إلى الممارسة والتطبيق، ومن النظري إلى العملي، وإتاحة العمل الجزئي لطلاب الجامعة أثناء الدراسة من أهم وسائل تدريب الخريجين للمساهمة في القضاء على البطالة بإذن الله. نقلا عن الرياض