كنت آليت على نفسي أن أتوقف نهائياً عن الكتابة عن الصحوة، وذلك في مقالة لي سابقة بعنوان: «الصحوة نقطة آخر السطر»، ولأن الضرب بالميت حرام فماأزال عند كلمتي تلك؛ فالصحوة باتت من ذاكرة الماضي، تراثاً يرصد لحراكنا الاجتماعي المستفز بأدوات صحوية غاشمة، إبان ثمانينات القرن الماضي، أقول غاشمة لأنها تداخلت مع كل تفاصيل حياة الناس الصغيرة والكبيرة، وأججت بينهم العداوة والبغضاء، وأوجدت لها لغة خاصة قسمت بها المجتمع إلى قسمين؛ مع وضد، ألبس ال«مع» حُللاً إيمانية ووعده بجنات النعم، وألبس ال«ضد» جلابيب من نار يتوعدونهم بها، كل هذا طويناه وأصبحنا داخل هذا الوطن سواسية، يقاس صلاحنا بحبّنا له، واقترابنا من حاجاته إلينا وخدمتنا له، إلا أنني أجدني مضطراً إلى الكتابة عن مخلفات الصحوة، التي ما تزال ماكثة في أذهان الناس، مما لا يستطيع الإنسان البسيط خلعه من رأسه بسهولة، وأهمها لغة الحلال والحرام، أو بمعنى أقرب «الفتوى» التي رهنوا لها حوالى ال30 عاماً، خرج جيل كامل ملبوس بها، أو بمعنى أصح متورط فيها. فلماذا استخدم الصحويون الفتوى، مع أن حراكهم كان مؤدلجاً باتجاه سياسي صرف؟ الجواب ببساطة: لتكتمل صدقيتهم وأن اتجاهاتهم شرعية، أو بمعنى آخر «شرعنة الصحوة» لتجد قبولاً أكبر عند الناس، ومن خلالها يتم لهم التمكين والاستحواذ على العقول، ولأجل تحقيق هذا الهدف أو الغاية الاستحواذية لنقل الاستعلائية تكاثروا على أبواب الفقهاء، وصاغوا المسائل وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم، فكانوا يأتون إلى الشيخ في مسألة ما، كحكم اقتناء الدش وإدخال القنوات إلى البيت، وحكم لبس النقاب، وتطويل الثوب، وعورة الرجل والمرأة، وسماع الأغاني، بما ينتزع الحكم الشرعي منه بلا إعمال تفكير أو تمحيص لدوافع السؤال ومبرراته، لكنهم لم يسألوا المشايخ قط عن حكم الأناشيد التي تحث على الفتنة والتمرد وتقود إلى الإرهاب، كما أنهم لم يستفتوهم في عقوق الوالدين، وهي من أخص سمات الصحويين، إذ كانوا يهجرون منازلهم أياماً وأسابيع في مخيمات ورحلات مشبوهة. اليوم، نكاد نجمع على أن الصحوة ذهبت إلى غير رجعة ظاهرياً، وعاد الناس إلى ذواتهم متحررين من ربقة الاستهلاك المجاني لقيم أقحمت في الشريعة وهي ليست منها، دفع الناس إليها بقوة الفتوى، حتى باتوا آنذاك في ريب مقيم من كل حركاتهم وسكناتهم، وتكاثر بينهم الجان خدام الرقاة المتكسبين من وراء الوهم الذي يغرسونه في قلوب الناس وعقولهم، ومع هذا كله ظلت الفتوى حية في عقول كثير من الناس، تضغط على تفكيرهم الحر، وخصوصاً أولئك الذين تمثلوها في عقولهم كالسيف القاطع الملزم لهم بالاتباع من دون تردد أو تقصير، وكأنها حكم قضائي واجب النفاذ. اليوم، لم يتبق من تراثيات الصحوة سوى تخليص هذه العقول من تبعات الفتاوى التي كانت تعلق في المساجد وتطبع في كتيبات بالملايين، كان المتضرر منها المجتمع، والمستفيد الصحويون ومن ورائهم حفنة من التجار الذين كانوا يتغذون على حسهم من كتاب ومؤلفين ودور نشر وتسجيلات إسلامية. وعى المجتمع جزئياً، بعدما انعتق من سلطتهم، أنه كان مستلباً، إلا أن الوعي الكامل لم يصل إلى كثير من العقول، التي استفزتها فتوى عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور عبدالله المطلق في مسألة الحجاب، وكان له فتوى مشابهة سابقاً تتعلق ب«غطاء الوجه»، ومع أن الفتوى الأولى والأخيرة باتتا لدى بعض الناس من الماضي، كرضاعة الكبير وغيرها من الفتاوى، إلا أن كثيرين مايزالون يرونها جديرة بالاهتمام، لذلك استفزتهم الفتوى، وخرج على الشيخ كل من هب ودب، ما بين رافض ومستنكر، متناسين أنه واحد من هيئة كبار العلماء، وفتواه لن تكون مسكونة بالهوى أو محفوفة بالجهل أو الخطل، كما أنه لم يأت بجديد صادم، فالأمم الإسلامية من حولنا تتعاطى مع الحجاب باختيار حر، وعلماء المسلمين لهم آراء عدة وغير ملزمة، وكثير من بناتنا اليوم داخل استشعار الحرية الجديدة، التي أصبحن يتنعمن بها لم يعدن يرينه مشكلة مؤرقة، حتى إن بعض الصحويين الذين عسفوا على الواقع الجديد للحياة، قبلوا الاقتران بزوجات عربيات سافرات، وقبلوا بالتحول على طريقتهم، من خلال فتاوى جديدة أكثر تسامحاً، وربما تجاوزاً، لأنها تخدم مصالهم، أما البسطاء المخدوعين فقد ظلوا على ما بقي من أنقاض الصحوة، وخصوصاً في رؤيتهم المرأة يوم وضعت في ركن ضيق من الحياة وأعيقت عن الحركة، ووضع حراس الفضيلة يدفعون عنها ويحمونها من مزالق الشيطان، لأنها «ناقصة عقل ودين»، لم يتركوا لها فرصة لاختيار شكل حجابها الذي تدين لله به. المحتجون اليوم يعيدون تدوير الافكار الصحوية القديمة ذاتها، ويرفعون سيوف الرفض لكل الفتاوى المختلفة عن المفاهيم السائدة، وهي حقيقة مفاهيم مصطنعة، فما قبل الصحوة كان وضع المرأة مختلفاً في لباسها وحشمتها، فمن عاش في ثمانينات القرن الماضي يعرف كيف كانت تلبس المرأة عباءتها، إذ كانت ترفعها إلى ما فوق الخصر، وغطاؤها يسمى «شيلة النحر» تبدي ما دون حلقها، ولا تستر معصميها، في زمن كان الناس فيه ملتزمين دينهم بكل أريحية وبساطة، وبينهم علماء الشريعة، أذكر منهم جارنا الشيخ صالح الأطرم رحمه الله، الذي كان يصلي معنا بعض الفروض، ولم أر أحداً يعترض طريقه ليسأله عن فتوى، حتى تسللت الصحوة إلى مفاصل المجتمع، وضخت قيمها التآمرية، وأصبحت تؤلب المشايخ على المجتمع، حتى بلغت حساسيتهم للفتوى مبلغاً أوصلهم إلى حد الوسواس، لم تكفها حتى القنوات التي ضجت بمشايخ الفتوى، وكانت سبيلاً للاستثمار والاسترزاق وتحصيل الأموال الطائلة باسم الله، ما جرفهم إلى الانسياق خلف إرادة أو إدارة الصحوة الغاشمة. اليوم - بكل صراحة - نريد أن نتخلص نهائياً وإلى الأبد من بقايا لوثة الصحوة، ونتصافى مع قيم ديننا السمحة البسيطة التي تعوقها الفتوى، ولنفهم جيداً أن ثمة مراقي للتقرب من خلالها إلى الله، يقاس المرء بحسب اختياراته الحرة لها، فمنهم من يكتفي عند حدود إسلامه، وآخر يبتغي الاستزادة بالتقوى، وآخر بالإيمان، والقلة يصلون إلى مراتب الإحسان، وجميعها أعمال قلبية خالصة ليس للشكل علاقة مباشرة بها، لأن الله سبحانه لا ينظر إلى أشكالنا بل إلى قلوبنا، عندها لن نبحث عن الشيخ المطلق وغيره ليعلمنا ديننا، لأننا حتماً نعرفه حق المعرفة، فانتفاء الجهال بثبوت العلم ملزم للمرء أن يستفتي قلبه، وكلنا متعلمون. * كاتب وروائي سعودي. almoziani@ نقلا عن الحياة اللندنية م