عندما كان الخطاب الليبرالي يتناول إشكالية المرأة من منظور حقوقي، ويُلحّ على حتمية المساواة بين المرأة والرجل في كل الحقوق وفي كل الواجبات، كان الخطاب الصحوي يتهم الخطاب الليبرالي بأنه خطاب مهووس بالمرأة، أو كما كانوا يقولون عابثين هازئين : « الخطاب الليبرالي خطاب يبدأ بالمرأة وينتهي بالمرأة مروراً بالمرأة يكاد الخطاب الإسلاموي المعاصر وخاصة المحلي منه، المتمثل في خطاب الصحوة أن يكون خطاباً في المرأة خاصة، وذلك لمركزيتها في هذا الخطاب. وإشكالية هذه المركزية انها ليس اهتماماً نابعاً من قلق إنساني ديني، يتناول المسألة النسوية من زاوية الرؤية الحقوقية؛ بقدرما هي مركزية نابعة من تأشْكل الحضور النسوي في السياقات التقليدية، إلى درجة أصبحت المرأة فوبيا تتخلل هذا مكونات الخطاب، بحيث لا تحضر المرأة في سياق عملي، انفتاحي، تفاعلي؛ إلا وجدت هذا الخطاب مترصداً لها في حالة رعب مرضي، لا يتمخض عنه إلا مقولات المنع والقمع والحجب والتهميش الذي يصل حد الإلغاء. لن أتناول هنا الإشكالية النسوية في الخطاب الصحوي بالمطلق، بل سأتناولها من خلال كتاب صدر حديثاً بعنوان (خطاب الصحوة السعودية) للدكتور محمد بوهلال. وهو كتاب موضوعي إلى حد كبير، خاصة وأن المؤلف من ذوي الميول الإسلاموية؛ مهما بدا ناقداً، أو حتى مفنداً لمقولات الصحوية. ومن هنا، فهو يكاد يكون شهادة من الداخل الصحوي المحلي؛ حتى وإن لم ينتسب المؤلف لثقافته صراحة. ورغم أن المؤلف تناول الصحوة في العموم، وبحث في معظم الإشكاليات التي تهم دارسي الصحوة، كالمنعرجات الفكرية للصحوة في طور التشكل، والمباحث العقدية، والمباحث الفقهية التي جاء مبحث المرأة في سياقها، ومسألة العلمانية...إلخ؛ إلا أن مناقشته لعلاقة الصحوة بالمرأة ربما تكون من أفضل ما جاء في هذا الكتاب. وهذا حكم بالأفضلية إن لم يكن من زاوية عمق البحث ومستوى شموله، فعلى الأقل هو الأفضل من زاوية أهميته في سياق اهمامات القارئ المحلي في اللحظة الراهنة. لا يعني تخصصي هذا الكتاب بالعرض أنه الأعمق ولا أنه الأشمل من جملة ما كُتب في هذا الموضوع، ولكن يعني أنه الأقرب والأنفع، من حيث هو كتاب مَسْحي، يقدم للقارئ الجماهيري نقدًا علمياً، يحافط فيه على نقاط التواصل مع جماهير هذا الخطاب، وكل ذلك بدراسة مختصرة (الكتاب في 198 صفحة)، خالية من التعقيد البحثي، بحيث يستطيع القارئ الجماهيري أن نفسه من خلال دراسة تُسائل الخطاب الذي يتلبّسه؛ دون أن تجرحه في مسلماته الأساسية، ولا في رموزه الاعتبارية التي لا يتححق وعيه بذاته إلا من خلالها (= المسلمات/ الرموز). ومعنى هذا أن السهولة التي يتسم بها هذا البحث، والموضوعية المتمثلة في التثمين النسبي للمنجز الصحوي، مما قد يراه بعضنا عيباً في الكتاب، هو ما نراه أهم إيجابيات الكتاب في سياق ما نتغيّاه من تأثير؛ لأنه هو القادر بهاتين الميزتين: السهولة والموضوعية النسبية على النفاذ إلى الوعي الجماهيري الذي لا يزال للأسف محكوماً بخطاب الصحوة، أو بمخلفات هذا الخطاب. طبعاً، ليس هذا العرض إلا إغراء صريحاً بقراءة هذا الكتاب كله؛ لأنه لا يقتصر على هذه المسألة (= المسألة النسوية)، بل يتعداها إلى مسائل أخرى، قد يراها قارئ آخر أهم وأولى بالمتابعة والبحث. هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يكون هذا الاستعراض تحميلاً للمؤلف مسؤولية ما أريد قوله ابتداء؛ فأعمد إلى التعبير عنه من خلاله. وربما كان من طرف خفي تأكيداً لمقولاتي عن الصحوة، من حيث كون المؤلف بعد البحث، وبعد كل هذه السنوات التي أعقبت نقدي للخطاب الصحوي، ينتهي إلى ما يشبه الأحكام التي كنت أؤكد عليها، مع فارق أنني لم أضع (المجاملة العلمية!) في اعتباري؛ لأسباب ليس هذا مجال عرضها. ومن ثم، ربما كان أفق التواصل والتأثير لدي أقل مما يمكن أو يوفره هذا الكتاب الذي يدخل في خانة: المختصر المفيد. أول ما يؤكده هذا الكتاب هو محورية مسألة المرأة في هذا الخطاب. يقول المؤلف ص75: "حظيت مسألة المرأة بالمكانة الأولى في مشاغل الخطاب الصحوي. فالدارس قلما يجد واحداً من كتّاب هذا التيار ليس له مشاركة واسعة في بحث هذه المسألة، وكأنه لا يستقيم الانخراط في هذا التيار إلا من باب التسليم بأن القضية الأم عند المسلمين اليوم تتمثل في معضلة المرأة. ويجد هذا التخمين ما يؤيده فيما نلاحظه من أن عدداً كبيراً من هؤلاء الأعلام قد تناولوا دراسة هذا الموضوع في أكثر من مناسبة، بما يعني أنها مدار تفكيرهم وشاغلهم الرئيسي" . ولا يخفى أن هذا الاهتمام (اللاطبيعي) نابع ليس عن مركزية هذه المسألة حقيقة، أي من منظور إيجابي، وإنما هو نابع من تحوّل الحضور النسوي في المجال العام إلى فوبيا تتلبس مجمل الخطاب، بل ربما أمكن إدراج هذه المسألة في مجال فوبيا الجنس؛ مما يؤكد أن دراسات الصحويين لهذه المسألة هي تعبير عن حالة مرضية، حتى وإن لم يصرح المؤلف بذلك. لكن هذا ما تؤكده طبيعة هذا الاهتمام (من حيث هو اهتمام متوجّه للحجب والمنع والتغييب)، فضلاً عن الكثافة اللاطبيعية التي يؤكدها هذا الاهتمام. عندما كان الخطاب الليبرالي يتناول إشكالية المرأة من منظور حقوقي، ويُلحّ على حتمية المساواة بين المرأة والرجل في كل الحقوق وفي كل الواجبات، كان الخطاب الصحوي يتهم الخطاب الليبرالي بأنه خطاب مهووس بالمرأة، أو كما كانوا يقولون عابثين هازئين : " الخطاب الليبرالي خطاب يبدأ بالمرأة وينتهي بالمرأة مروراً بالمرأة ". وطبعاً هذا شرف للخطاب الليبرالي لو كان كذلك؛ لأنه لا يتناول المرأة إلا من ناحية تشريفها بأنسنتها، لا بشيئنتها كما يفعل خطاب الصحوة، هذا الخطاب الذي لا تحضر المرأة لديه إلا في حالة غياب/ تغييب! في مناسبة ما، قال لي أحد الصحويين: أيها الليبراليون، لماذا لا تتركون قضية المرأة للمرأة، المرأة أعلم بما تريد، وأقدر على المطالبة به. ومع أنني أعتقد أن مسألة المرأة ليس مسألة نسوية خالصة، بل هي مسألة إنسانية عامة، إلا أنني أجبته من باب التنزّل الحجاجي : أنا مستعد أن أوقّع ميثاقاً بأن لا نتكلم في مسألة المرأة؛ شرط أن يوقعه معنا كل الخطباء وكل الدعاة وكل الكتاب الصحويين ...إلخ الذين يتبنون الرؤية الانغلاقية. هنا، نكص على عقبيه، ورد بأن هذا غير ممكن. فعل هذا لأنه يعرف أن الأغلبية الساحقة من المقولات التي تؤسس لتغييب المرأة وإلغائها وتعطيلها هي من نتاج فعاليات ذكورية، وأن إنتاج المرأة الصحوية فيما يخص قضايا المرأة ليس أكثر من تهميش على هذا المتن الذكوري، يؤكد دونما اعتراض من أي نوع على القناعات الذكورية التي باتت راسخة في وعي الصحويات رسوخ الجبال. يتناول المؤلف مسألة المساواة بين الرجل والمرأة، ويرى أن المرجعية السلفية هي ما يحدد موقفه من المرأة، حيث يؤكد هذا الخطاب أن المرأة كائن له طبيعة خاصة، ويتعيّن العلم بهذه الطبيعة الخاصة. ولهذا اعتنى بمسألة الفروق بين الرجل والمرأة على المستوى البدني والذهني. طبعاً، لم تعتنِ بهذه الفروق علمياً إلا من أجل تبخيس المرأة جسداً وعقلاً. يقول المؤلف ص 76، عن المقارنة بين الرجل والمرأة لدى أعلام هذا الخطاب الصحوي: "وفي هذه المقارنة يجري الإلحاح على فكرة مركزية تتمثل في ضعف كيان المرأة مقارنة بالرجل" . ويتحدث عن إحدى الداعيات الصحويات اللائي يؤكدن أن الإسلام لم يُسوِّ بين الرجل والمرأة وإنما عدل بينهما؛ مسترسلة في حشد الشواهد (العلمية!) التي تثبت ضعف كيان المرأة بدنياً ونفسياً وذهنياً. ولا يخفى هنا أن هذا تفريق متعمد؛ لأن المساواة مسألة ظاهرة يُمكن قياسها، بمعنى أن تُعامل المرأة كالرجل تماماً، وهنا تتحقق المساواة، بينما العدل يخضع لمقايسات تختلف فيها الآراء كثيراً؛ فيسهل حينئذٍ سلب المرأة حقوقها بدعوى أن هذا هو عدل الإسلام. يُلمح المؤلف إلى ظاهرة تتخلل هذه الرؤية اللاّمساواتية، حيث يرى أن أعلام الصحوة إذ يقررون الفروق بين الرجل والمرأة علميا!، فإنهم يُرتّبون على هذا نتيجة غير صحيحة، وهي أن الفروق تقضي في كل الحالات بتفوق الرجل وأفضليته، بينما بعض الاختلافات العضوية يكون فيها التفوق للمرأة على الرجل، لا العكس. يرى المؤلف أن هذا الخطاب لا يستدل بالنتائج (العلمية!) لتقرير التفوق ابتداء، بل إن مسألة التفوق محسومة لديهم من حيث هي ثابتة بالنصوص الشرعية. وطبعاً، ثابتة حسب تأويلهم الذي يُقيمونه مقام التطابق مع النص. ولهذا يؤكد المؤلف هذا الاعتساف قائلا ص77: "والغريب أن الاستدلال بالنصوص الشرعية يجري توظيفه على نحو يخالف مقاصد الإسلام الكبرى". ويستشهد بشواهد كثيرة، موضحا أن أعلام الصحوة يختارون أشد التفاسير ازدراء للمرأة، فيعتمدونها كتفسير يطابق النص، متوهمين أن لا تفسير غيره. ومن هنا نجده يُعلّق على تجاهلهم لتوجيهات الآية {وللرجال عليهن درجة، خاصة وأنها توجيهات تفسيرية صادرة عن بعض أعلام التفسير، فيقول: " وعلى هذا يكون تأويل فقهاء الصحوة لهذه الآية ولنص الحديث النبوي [يقصد حديث الضلع] محمولاً على أسوأ الوجوه التي لا يمكن أن يكون الشرع قد قصد إليها بتاتا". من المؤكد أن خطاب الصحوة خطاب يضطهد المرأة، بل ويلغيها، وهذا ما أكدت عليه مراراً في أكثر من مقال، ولم يكن الأمر مُفاجئاً لي، إذ الخطاب الصحوي يمتاح من وعي سلفي مُمعن في التقليد والانغلاق. لكن المؤلف يبدو أحياناً كالمصدوم من هذا الخطاب الذي يستعبد المرأة؛ في الوقت الذي يدعي فيه إعلامياً/ دعوياً أنه يُكرّمها !. يقول ص78 : " ومن علامات ترجيح فضل الرجل على المرأة في خطاب الصحوة، أن طاعة المرأة لزوجها يجب أن تكون طاعة مطلقة، وقد تبلغ حد السجود له. وهذا ثابت عندهم بنص الحديث. ولا يرى الصحويون في هذا المذهب ما ينال من ذات المرأة ومن كرامتها، أو ما ينتقص مما خصّها به الإسلام من تكريم وتبجيل". ولا ينسى المؤلف أن يثير مسألة ثبوت هذا الحديث سنداً، وتناقضه مع روح النص القرآني الذي يقضي بالمساواة، إذ القرآن يؤكد أن لهن مثل الذي عليهن، ولا يوجد في القرآن ما يُشجع على إثبات هذا التفاوت الاستعبادي الذي يبدو في ظاهر الأثر. يلاحظ المؤلف أيضاً حرص الصحويين على مسألة الثناء على وضع المرأة المسلمة (وقصدهم المرأة في واقعنا المحلي)، وهي مسألة طالما ضاقت بها ذرعاً كثير من النساء لدينا، إذ هي كمسألة سجالية تُغالط في واقعهن أشد ما تكون المغالطة سخرية. يقول المؤلف ص 79: " ومن المحاور الأثيرة لدى تيار الصحوة، الثناء على وضع المرأة المسلمة. وغالبا ما يعبّرون عن نزعتهم التمجيدية تلك بواسطة المقارنة بحال المرأة الغربية المعاصرة. وفي هذه المقارنة الموجهة يخلص فقهاء الصحوة إلى أن المرأة في الغرب تعيش واقعاً مأساوياً قاسياً. ولذا فهي تحسد نظيرتها المسلمة على ما تنعم به من تكريم ورعاية ". والجدير بالذكر أن المؤلف يتنبّه لظاهرة التدليس التي تعتمد ذكر آراء نساء غربيات قد لا يكون لهن وجود، وإنما توضع كثير من الأقوال، وتضاف إلى أسماء لم يُسمع بها من قبل (وذكر المؤلف أمثلة لذلك، وقال: لم نقف على ترجمة لهذه الشخصية)، بل يتم إيراد بعض الأقوال منسوبة إلى عموم مجهول يسهل الكذب عليه، كأن يقول الصحوي: قال أحد ألد أعداء الإسلام، أو أحد قادة الماسونية... هكذا، دون أن يُثبت تحديداً مَن قاله، وما موقعه في خارطة الفكر الغربي. وبمقدار ما يُلح خطاب الصحوة على ضعف المرأة بدنياً ونفسياً وذهنياً؛ بمقدار ما يؤكد على قوتها، وذلك في مضمار واحد يهدف توجهه الانغلاقي. يقول ص80 : "وقوة المرأة عندهم في فتنتها وقدرتها الفائقة على إغواء الرجل وجرّ المجتمع بذلك إلى مستنقعات الفساد الأخلاقي". وهنا ينقل المؤلف قول أحد شيوخ الصحويين ص81: " قد يصمد الرجل في المعارك والحروب، ولكن هذا الرجل العملاق، هذا الرجل الهمام يفاجأ أنه كثيراً ما ينهار أمام المرأة بمغرياتها وفتنتها ". وهذا يؤكد أن المرأة أصبحت فوبيا في سياق هذا الخطاب المريض، الذي سيصل التعنت به إلى درجة أن يصدر كثيراً من التحذيرات التي تعكس حقيقة رُعب بدا أنه يخرج عن نطاق المعقول إلى حيز اللامعقول، ففي هامش ص82 يذكر فتوى لشيخ شهير جاء بعنوان يوحي بفحواها، والعنوان يأتي نصاً هكذا: "فتوى تتعلق بالمقدار الذي ينبغي للمرأة أن تتقيد به عند إخراج العينين عند لبس النقاب" !. لا يفوت المؤلف أن يربط هذه المخاوف المرضية بمخاوف أخرى، مصدرها وَهْم المؤامرة الغربية. ومن هنا يؤكد كيف ذهب كتاب الصحوة إلى أن " هذه المؤامرة التي تحاك ضد الإسلام عبر إغواء المرأة، قد تم الإعداد لها بدقة وإتقان، وباعتماد وسائل متنوعة ومتعددة، منها ما عوّل على ترويج ثقافة التغريب والإلحاد" ص84. وطبعاً، هي ليست مجرد مؤامرة، بل حرب صليبية من خلال المرأة التي يطمح الصليبيون للسيطرة على عقلها، وتدمير الأمة من خلالها. وهنا ينقل المؤلف في الهامش شيئاً من منقولات الصحويين، فأحدهم يورد قولاً ينسبه إلى امرأة صليبية مجهولة، ونص كلامها يقول: "ليس هناك طريقة لهدم الإسلام أقصر من مسافة خروج المرأة المسلمة سافرة متبرجة" . والمؤلف يرى أن هذه النصوص، بصرف النظر عن ثبوتها، ليست إلا أداة لتجييش العواطف ضد كل ما يخالف العوائد الاجتماعية المألوفة. فيما يخص مسألة الاختلاط، يلاحظ المؤلف هوس الخطاب الصحوي بهذه المسألة. مؤكدا ص 88 كيف " تصدّرت قضية الاختلاط اهتمامات أعلام الصحوة، حتى أنه يكاد لا يوجد بينهم من لم يشارك في الكتابة في هذه المسألة ". ولكن أهم ما يثير المؤلف هوى دعوى الصحويين أن تحريم الاختلاط محل ثبوت بالنص، وبالمتواتر من أقوال العلماء، وادعاء الإجماع، مشيراً ص89 إلى أن " أشد ما كان يثير حفيظة أعلام الصحوة، تشكيك بعض المعاصرين من المسلمين في هذا الإجماع الواسع حول تحريم الاختلاط ". المؤلف يشير إلى غرابة هذه الآراء المتشددة، والتي وصلت ببعضهم إلى المطالبة بتغيير سنن الحج التي تواتر العمل بها منذ عهد النبوة، كتلك الدعوة التي طالب فيها صاحبها بهدم المسجد الحرام وإعادة بنائه على نحو يكفل منع الاختلاط. وفي تأكيد فجاجة هذا الغلو يقول المؤلف ص 90: " والأرجح أن مثل هذا الغلو لا يراعي مقصد التيسير الذي بُنيت عليه معظم أحكام الإسلام، فضلاً عما ينطوي عليه من جرأة على الدين تبلغ حد تشويهه بالبدع التي لم تخطر على بال من تقدم من أهل الإسلام". يتابع المؤلف هذا الشطط الصحوي في مسألة الاختلاط، مناقشاً تهافت هذا الانغلاق، وما يتبعه من تخليط وتدليس استدلالي، لا لشيء إلا ليضمن هذا الخطاب انتصاره في هذه القضية التي أصبحت مجال سجال واسع. يلاحظ المؤلف أن هذا الخطاب أراد حسم المسألة بطريقة غير علمية، وذلك بإخراجها من دائرة المناظرة، فبلغ من الغلو أن ينقل المسألة من خلاف في التحليل والتحريم إلى القول بتكفير من يجيز الاختلاط، متعجباً من ترقية تحريم الاختلاط، كمسألة فقهية خلافية، إلى مستوى ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وذلك عن طريق ربطها باستباحة ما لا يقول أحدٌ من مبيحي الاختلاط باستباحته، ومن ثم متسائلاً ومنكراً: هل يعتبر من استحلّ الذريعة مستحلاً لما تؤدي إليه تلك الذريعة بالضرورة؟". يُعقّب المؤلف على فتوى تكفير مبيح الاختلاط بقوله ص93 : " والحقيقة أن هذه الفتوى تمثّل وجهاً من وجوه التشنج الفكري في بحث هذه المسائل الخلافية. نُقدّر أن الاستناد إلى قاعدة سد الذارئع في تقرير حكم تحريم الاختلاط، لا يعبر إلا عن شطط في الأخذ بالقول الأحوط". وبعد ذلك بصفحات معدودة، يربط مسألة قيادة السيارة بمسألة الاختلاط، مؤكداً أن التحريم الذي يمنع المرأة من هذا الحق نابع من فوبيا الاختلاط. أخيراً، لا يفوت المؤلف أن يشير إلى أن هذا الغلو في الخطاب الصحوي وصل إلى حد الارتياب، بل إلى حد العصاب، كما يشير إلى أن هذا الغلو مُضرٌ أشد ما يكون الضرر بالإسلام، وذلك أنه يمارس التشكيك غير المباشر وغير المقصود بكفاءة أحكامه، كما يظهر ذلك من خلال فتاوى المنع والحجب التي تعيق فاعلية المرأة، ولا تقدم أي بديل عملي لها. يقول ص98 : " ولا شك أن عدم الاستجابة للمشاغل الحقيقية للمجتمع من شأنها أن تضعف ثقة الأفراد في كفاءة الأحكام الشرعية وفي قدرتها على إيجاد الحلول المناسبة للنوازل الحادثة". وهذا بلا شك هو التعطيل غير المقصود لأحكام الإسلام؛ بدعوى تفعيل أحكام الإسلام، بل هو التشويه الفجّ الذي يمارسه الانغلاقيون، أولئك الذين جعلوا من الإسلام واجهة لعُقدهم وتأزماتهم وإحباطاتهم الذاتية والمجتمعية؛ فظهر الإسلام على أيديهم وكأنه دعوة إلى الموت البطيء، بينما هو في حقيقته دعوة مفتوحة للحياة.