في مختلف جوانب الحياة الثقافية والفكرية، فإن التعددية أصل من أصول الثقافات، حتى تلك التي تتميز بنوع من الانغلاق على ذاتها، إذ يظهر داخل أي ثقافة عدد من التوجهات التي ربما تنبثق من الثقافة الأم وتختلف عنها، وربما تمارس ضدها العداء؛ إما انغلاقا أكبر، أو انفتاحا أكثر، بنسب متفاوتة بين الفرق المختلفة، وهذا أمر طبيعي جدا، لكن الذي يحصل هو عملية تصنيف فكري أو أيديولوجي في الواقع العربي بمذهبيه الكبريين: (السني والشيعي)، يتبعه نوع من التصفية الفكرية أو حتى الجسدية متى ما توفر الغطاء السياسي للتيارات المختلفة. كان هذا من آلاف السنين، ولم يكن وليد السنوات القريبة الماضية. المصنفات التراثية كانت تعج بالكثير من عمليات التصنيف الفكري والمذهبي منذ أول صدام حصل في التاريخ الإسلامي بين أبناء المسلمين أنفسهم، ولاحقا تشعب مثل هذا التصنيف من معتزلة وسنة وشيعة بمسميات من قبيل: الرافضة والنواصب، وأهل البدع والزندقة، والماتريدية، والأشعرية، والمشبهة، والمعطلة، والقدرية، والجبرية، وما إلى ذلك، ممتدا إلى تاريخنا الحديث والمعاصر بحكم امتداده الفكري الماضوي، حيث مازالت عمليات التصنيف رائجة كثيراً من قبيل: ليبرالي، وعلماني، وإخواني، وسلفي، وجامي، وسروري، وغيرها. بالطبع ليست المشكلة في مسألة التصنيف من الناحية المنهجية بحيث يمكن معرفة المنطلقات والمرجعيات الفكرية والسياقات المعرفية من هذا التصنيف، فهو أحد أهم العوامل الفكرية والعلمية في التفريق بين المتداخلات الفكرية بين الخطابات جميعها؛ أقول: ليست المشكلة في التصنيف المنهجي، وإنما الإشكالية تنتج من التصنيف "الإقصائي" إذا صح الوصف بمعنى يتم الإلغاء الكلي فكريا واجتماعيا وسياسيا، وربما يصل أحيانا إلى التهم بالتخوين تمهيدا للاعتقال والتصفية الجسدية كما يحصل في بعض الفصائل المتناحرة في أكثر من دولة عربية حالياً. من ناحية التصنيف المنهجي والعلمي فبالتأكيد سوف يكون ذلك في صالح الفكر العربي كتعددية ثقافية طبيعية يمكن قراءتها في السياق الاجتماعي الطبيعي، لكن من ناحية التصنيف الإقصائي فإن ضرره كبير على الفكر العربي، حيث يفرّق ولا يجمع، ويبعد ولا يقرب، بل هو رفض للتعددية الفكرية ورفض للرؤية المنهجية والعلمية في مسألة التصنيف. والتعامل بين التيارات المختلفة قاد إلى مفاصلات عديدة خطرها يمتد يمينا ويسارا في كافة أرجاء الدول الشرق أوسطية، وهو حاصل منذ مدة طويلة جدا، والدليل تلك التصنيفات التي ذكرناها؛ إضافة إلى أن لكل تصنيف معسكره الفكري والسياسي الخاص الذي لا يمكن أن يتقاطع مع المعسكر الآخر، إلا في بعض المصالح المشتركة الآنية التي تنتهي مع انتهائها، وإلا فإن لكل معسكر رؤيته الخاصة وأجندته السياسية ومفكريه وكتابه سواء كان إسلاميا أو ليبراليا أو عروبيا. كذلك فإن في داخل كل تيار، تيارات أصغر تنافس على الصعود والتصنيف إلغاء لتكون لها الهيمنة الفكرية دون سواها. وما يوجد من عملية تصنيف في وسائل الإعلام التواصلية الحالية ليس إلا امتدادا طويل الأمد لجذور فكرية وأيديولوجية أبعد بكثير مما نتخيل، ونتائجها كانت قاسية، ولن يتم التعافي منها إلا بعد انقضاء ربما جيل أو جيلين من مروجي تلك التصنيفات، بحيث يمكن أن تتغير موازين القوى. نحن نرى كيف عادت المسألة الطائفية في أكثر من دولة على الرغم من أننا كنا نعتقد بأنها منتهية تماما في إطار مفهوم الدولة الحديثة، لكننا كنا حالمين أكثر مما يجب. ها هي الطائفية مثلا تعود بعد حوالي عشرين عاما من الكمون، وبأبشع مما توقعنا. التصنيف الإقصائي سوف يجد فرصته في كل مرة بأن يظهر ما لم تكن هناك عمليتان مزدوجتان: الأولى نقد متواصل من داخل كافة هذه التيارات لنفسها ولبعضها، والثاني: قانون صارم يمنع التصنيف الإقصائي الذي يتولد عنه إلغاء للآخر المختلف. كلا هذين الأمرين غير موجود، فلا النقد من داخل الخطابات مقبول، ولا الدولة العربية الحديثة قادرة على لجم هذا التصنيف الإقصائي والمحافظة على التصنيف المنهجي، هذا إذا لم نقل إنها هي من تغذيه أحيانا لمكاسب سياسية من هنا وهناك. والحديث عن الإقصائية في الإعلام الجديد لا يعني أن الإقصائية جديدة، بل هي موجودة قبل الإعلام الجديد بفترة طويلة. لكنه ربما أعان على انتشارها وتوسع مجالها دخول من لا منبر له إلى الإعلام الجديد، بحيث أصبح في متسع كل من أراد أن يصنف هذا أو ذلك فإن بمقدوره أن يقول ما يشاء في أي وقت يشاء دون رؤية علمية ومنهجية متزنة. هنا الفرق فقط، ففي الماضي كان التصنيف محدودا في من يمتلك منبرا سواء كان إعلامياً أو شريط الكاسيت أو منبر جمعة أو غيرها، والآن دخول كل المتأدلجين إلى المشاركة. المسألة في اتساع الرقعة وليس في كونها اتقدت أم لم تتقد من قبل. وبالطبع لا يمكن الحديث عن ضوابط لوقف هذا النزيف الفكري إذا صحت الاستعارة في غياب مسألة القانون، وغياب مسألة القانون هو غياب لمفهوم الدولة الحديثة التي كان القانون هو أساسها الذي انبنت عليه. الدول العربية مازالت تعاني حتى بعد تحول بعضها إلى المفهوم الديمقراطي من غياب مفهوم قانوني للقانون، بمعنى قيام القانون على أسس الدولة الحديثة التي تؤمن بمسألة التعددية الفكرية والدينية والمذهبية داخل الفضاء الاجتماعي العام، وتفرق بين ما هو خاص للفرد من ناحية الفكر والمعتقد، والعام الذي يختص في المشاركة الاجتماعية لكافة أبناء المجتمع مهما اختلفت أطيافهم الفكرية. هذه الرؤية غائبة تماما عن الدولة العربية قديما وحديثا. الدولة العربية الحديثة تقوم على أيديولوجية محددة سواء كانت إسلامية أو قومية أو مذهبية في بعضها، الأمر الذي يجعلنا في تساؤل دائم عن كيفية البحث عن ضوابط في ظل دولة أيديولوجية في طبعها هي الدولة العربية من الخليج إلى المحيط. لنفكر في مفهوم الدولة أولا، ثم القانون ثانيا، ثم الضوابط التي نبحث عنها. نقلا عن الوطن السعودية