لم تمر عقود ثلاثة على اختيار نبينا عليه الصلاة والسلام للرفيق الأعلى، إلا وقد نجح ذئاب السياسة في تسخير شرار الأمة وبلهائها لإثارة الفتن بين المسلمين، تحت ظل دعاوى التمسح بالدين والبكاء عليه. فمنذ أن استخف الذئاب من الطُماع في السلطة والمسترزقة بالبلهاء من بسطاء المسلمين فساقوهم سوق القطيع، فقتلوا الحييّ ذا النورين أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، بدعوى الانتصار للدين، والسيناريو يكرر نفسه على مدى أربعة عشر قرناً. ففتنة عثمان لم تترك شهيداً في محرابه مضرجاً بدمائه، بل تركت أمة مضرجة بدمائها. فهكذا قتلوا علياً والحسين. وهكذا استباحوا المدينة ومكة وأعراض الصحابة وأموالهم. وهكذا هي ديدن حال المسلمين خلال غالب عصورهم، يتورعون عن قتل ضفدع ويستبيحون دماء عشرات الألوف من المسلمين والمعاهدين. نعم اقرأوا التاريخ، فقد ذكر الذهبي وغيره أرقاماً بالملايين (كآلفي ألف). والحقيقة أن حال المسلمين لم يتجاوز حال العرب في جاهليتهم وغزو بعضهم بعضاً، ولكن على مقياس أكبر في استحلال الدماء والديار. فلم يحكم المسلمون -من بعد الخلافة الراشدة- بلادهم بدين محمد عليه الصلاة والسلام، وإن زعموا ذلك. ومن يزعم ذلك فهو يزعم أن دين محمد عليه السلام هو دين القتال الدموي على السلطة والحكم والنزاعات، ودين الدكتاتوريات المتمثلة في الخلافة أو في الإمارة. ديكتاتوريات قد تجبرت حتى وصل جبروت ظلمها إلى أن أصبحت من أدبيات العرب، فهي تدرس إلى اليوم كمفاخر «إقطع رأسه يا غلام، واعطه من بيت المال ألف دينار ومئة جارية يا غلام». نعم، إن من يزعم أن المسلمين لم يفصلوا الدين عن الدولة فهو يزعم بأن دين محمد دين الجواري وظلم الرقيق وانتشاره. دين الطبقيات ودين العنصريات. دين الفجور والخمور والشذوذ، التي غلبت على عهود الخلافات. إن من العمى الذي أصبنا به، أننا نتغنى بقصور الرصافة وتاج محل، ونفخر بقصور الأندلس ولكننا لم نفهم قط بأنها رمز الديكتاتورية والطبقية وسرقة أموال المسلمين واضطهادهم. ونفخر بالعصر الإسلامي بعلماء الطب والاجتماع والفيزياء والرياضيات وننسبهم لحكم الإسلام، بينما لم ينسب التاريخ أحداً منهم للإسلام. فالصحيح أنه قد حُجر على العلوم الطبيعية، واضطُهد علماؤها باسم الدين، فلا يوجد عالم واحد مما نفتخر بهم إلا وقد ساقوه إلى الزنذقة والإلحاد أو اتهموه بها، إلا أن يكون نصرانياً أو يهودياً وننسب علمه للمسلمين. وبسلطة الدين وقدسية الفقيه لا يذكر ويناقش أحد التاريخ الدموي الحقيقي فيما حدث من استحلال المسلمين لدماء بعضهم والاستخفاف بها وكأنها دماء نعاج وبقر إلا ويُتهم بنسبته إلى التغريب والغرب والتأثر بهم. وأنا أقول: إن كل صاحب عقل منصف لا بد وأن يُتهم بالتغريب أو بتأثره بالغرب. فالمصلحة والحق والمنطق والواقع لا تختلف بين مسلم وكافر وشرقي وغربي. وقد وافق الغرب أوامر النبوة والوحي في كثير من الأمور لأنها أمور فطرية، ولم يتهم بعضهم بعضاً بتبعيتهم للمسلمين. وقد تخلى الغرب عن إنكار تاريخه الدموي ولم يعمل على تجميله لحد التحريف، بل اعترف به ودرسه وعمل على منع عودته، وواجه الواقع بحقيقته، وترك التناقض والكذب على النفس بالأحلام وتمني الأماني الباطلة واقعاً ومصلحة، فأدرك الغرب كثيراً من المصالح. فكل من يكون موضوعياً وصادقاً في بحثه وتأمله من المسلمين، سيصل إلى نتيجة الغرب نفسها، فيُتهم بالتغريب. أما نحن المسلمين فنكذب على واقعنا ونحن نعيشه اليوم، فما بالك بحجم أكاذيبنا على تاريخنا. انظر إلى كذبة الصيرفة الإسلامية ونحن في هذا العصر المتقدم، وتوافق أهل المال والدين عليها، فما بالك بتاريخ الأمس؟! فإن أراد الفقهاء الصدق مع أنفسهم والإخلاص في تحمل أمانتهم ووفاء عهدهم الذي قطعوه للناس في النظر في أمور دينهم، فإن عليهم إعادة النظر في فقه الأمة دون تجاوز مطلقاً لنصوص الشرع. كما أن عليهم الصدق في قراءة التاريخ. فالتاريخ هو النتيجة التطبيقية لمنهج وفكر وفقه الزمان المصاحب له. وهم إن فعلوا ذلك، سيصلون بإعجاز نصوص الشرع إلى المصالح نفسها التي وصل إليها الغرب، كما أنهم لن يستطيعوا تحقيق هذا ما لم يتجردوا في طرق البحث والتأصيل وهي الطرق التي توصل بها الغرب إلى فهم وتسخير كثير من سنن الله الكونية في قرن من الزمان. فإن كانت كل هذه النهضة العلمية والحضارية قد حدثت في قرن بسبب التجرد في البحث وطرق التفكير، فدين الأمميين لا يحتاج لسنوات لكي يُصفى ويعاد تشكيله كما جاء به محمد عليه السلام غضاً طرياً. نقلا عن الجزيرة