كشفت تجربة الربيع العربي على مدى ثلاثة السنوات الماضية عن وجود ثلاث أنماط رئيسة (trends) شكل كل منها أحد المحددات الفاعلة لتطور أحداث هذا الربيع ومآلاته. هذه الأنماط لا تشرح بالضرورة ظاهرة الربيع العربي من كل جوانبها ولا تفسر أيضا أسباب تطور الأحداث في دول الربيع وتحولاتها منذ انطلاقه حتى الآن، إلا أنها في المقابل تلقي الضوء على ما يمكن القول إنه سياق عام من النقاط المتضادة التي كان لتفاعلها أو صراعها أثر قاد لما نراه اليوم من تطور وتحول في حال ظاهرة الربيع العربي. ومن ثم، فهذه الأنماط – إن صحت – قد تساهم في تعميق فهم ظاهرة الربيع، أو تساعد الدول التي لم تمتد لها الظاهرة على ترتيب شؤونها طبقا للسياق الحاكم للأمور. وتعد تجربة مصر خلال ثلاث السنوات الماضية أبرز مثال تجلت فيه هذه الأنماط الثلاث. أولا: نمط أتاتورك ضد الخميني (Ataturk Vs. Khomeni): ظل النموذجان الأساسيان للتحولات السياسية في المنطقة هما نموذجا "الثورة الكمالية" في تركيا مع ما حمله مشروع مصطفى كمال أتاتورك من الحداثة وعلمنة السياسة، ونموذج "الثورة الخمينية" في إيران مع ما حمله مشروع آية الله الخميني من المحافظة وتديين السياسية. كلا النموذجين يمثلان النقيضين، ويمكن بصورة أو أخرى النظر لثنائية "الإسلامي" و"المدني" في مجتمعاتنا من ذات سياق هذين النموذجين ورؤيتهما لما يجب أن يكون عليه شكل وإطار الدولة. لم ينجح الربيع العربي في تقديم نموذج آخر للتحول السياسي بعيدا عن هذين النموذجين، وكان واقع ما شهدته دول الربيع عقب انحسار فورة الثورة فيها هو انكشاف الخلاف الجذري والتضاد بين رؤية التيارين الرئيسيين (الإسلامي والمدني) تجاه كيفية توجيه التحول السياسي عقب الثورة. لم تكن الديمقراطية سوى العنوان العريض الذي حاول التياران الانضواء تحته لتجسير تضاد نموذجيهما، لكن سرعان ما ظهر أن المسألة تتعلق بأمر أكبر من مجرد صندوق انتخابات أو آلية إدارة الدولة. تجربة مصر خلال هذه الفترة كاشفة إلى حد كبير، فما قاد في المقام الأول لرفض المصريين لحكم جماعة الإخوان المسلمين لم يكن سوى الرفض للوجهة التي أراد الإخوان قيادة مصر إليها، وهي تحول سياسي على خطى "النموذج الخميني" حيث الدولة التي تقوم بتديين المجال العام والسياسة. لقد كشفت "ثورة 30 يونيو" أن هناك أمرا سابقا على مسألة الديمقراطية ومناط الخلاف الرئيس، ألا وهو الإطار العام للدولة والنموذج الفكري الحاكم لها الذي ستخضع له آلية الديمقراطية ابتداء. لقد كشفت التجربة أنه في ظل فشل الربيع في إيجاد نموذج جديد، فإن نموذج أتاتورك تفوق على نموذج الخميني. ثانيا: نمط المدينة ضد الريف (Urban Vs. Rural): ظل الريف في العالم العربي المخزن البشري الرئيس الذي اعتمدت عليه النظم السياسية كظهير اجتماعي مقابل النخب المتعلمة للمدينة المطالبة بتغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية. فالريف بطبيعته يسهل التحكم فيه على العكس من المدينة، كما أنه يظل أكثر تماسكا على الصعيد الاجتماعي من المدينة. ومن ثم، لعب الريف دورا كبيرا في تغليب تيار على تيار عقب فورة الثورة من خلال آليات الديمقراطية والتصويت نظرا للخزان البشري الذي يتمتع به الريف على حساب المدينة. وللريف آليات ووسائل وخطاب (discourse) تختلف تماما عن نظيرتها في المدينة، بل تكاد تتضاد معها. ما حدث خلال الربيع هو عملية تغليب للريف على حساب المدينة، بل ومحاولة المتغلب "ترييف" المدينة (ruralization) لتوسيع قاعدة النفوذ والسلطة. تجربة مصر خلال الفترة الماضية تكشف أن أحد أهم أخطاء جماعة "الإخوان" كانت محاولة نقل ثقافة الريف وخطابه السياسي والإعلامي للمدينة بدلا من العكس، مما قاد المدينة بالتالي للفظهم ورفضهم. فعلى الرغم من كون المدينة أقل حجما وعددا من الريف في عالمنا العربي، إلا أن المدينة تظل مركز القوة السياسية والاقتصادية القادرة على التحكم في الريف، وبالتالي فإن ما كشفه الربيع العربي هو أن أي تحول سياسي لا يتعلق فقط بآليات الديمقراطية والأكثرية، وإنما أيضا بتناغم هذا التحول مع ثقافة المدينة وآلياتها وخطابها. لقد فشل "الإخوان" في مصر بثقافتهم وخطابهم الريفي في عملية تركيب أنفسهم على جهاز الدولة بالمدينة وعلى دوائر القوة السياسية والاقتصادية فيها. وهذا بعد اجتماعي مهم فيما يتعلق بالسطوة على المفاصل الأساسية المحركة للدولة. لقد رفضت المدينة جماعة الإخوان لأنهم لم يعكسوا ثقافة المدينة بل ثقافة ريف يحاول احتلال المدينة وتغيير سمتها وطبيعتها. ثالثا: نمط اقتصاد الدولة ضد اقتصاد رجال الأعمال ظلت الدول العربية تتبع مبدأ الاقتصاد المختلط (mixed economy) الذي يجمع بين دور السوق الحر كما في الأنظمة الرأسمالية، ودور الدولة في الاقتصاد كما في الأنظمة الاشتراكية. ومع عملية الانفتاح الاقتصادي خلال العقود الثلاثة الماضية تنامى "اقتصاد رجال الأعمال" الذين شكلوا بالنسبة للنظم السياسية البديل الموضوعي لدور الدولة في الاقتصاد، فنمت سطوة رجال الأعمال المقربين من النظام السياسي كونهم مثلوا لتلك النظم آلية تتحكم الدولة من خلالها في تسيير دفة الاقتصاد بالشكل الذي يلائمها. إن شعار "العدالة الاجتماعية" الذي حمله الربيع العربي لم يكن شعارا يساريا أو اشتراكيا يهدف لعودة دور الدولة القوي في الاقتصاد بقدر ما كان شعارا يعبر عن رفض "اقتصاد رجال الأعمال" مقابل "اقتصاد الدولة" الذي يتيح حرية الأعمال بعدالة للجميع بعيدا عن تدخل الدولة في الاقتصاد بالانحياز لفئة دون الأخرى. تجربة مصر خلال الفترة السابقة كشفت أن محاولة جماعة الإخوان استبدال نفسها بطبقة رجال الأعمال التي كانت قائمة في النظام السابق جوبهت بالرفض، كون الرفض لم يكن لشخص رجال الأعمال أو فسادهم في النظام السابق بقدر ما كان رفضا لهذا الأمر برمته: أي النظام القائم على اقتصاد رجال الأعمال بدلا من اقتصاد الدولة المتاح للجميع. لقد كان الرفض لجعل الدولة مدخلا للتحكم في الاقتصاد بدلا من جعل الاقتصاد مدخلا للتحكم في الدولة. في نهاية المطاف، تظل هذه الأنماط مجرد استقراء لظاهرة لا تزال تتشكل وتتفاعل. إلا أنه في حال كانت هذه الأنماط التي تم استقراؤها صحيحة، فإن هذا يعني أنه ربما يتوجب على الدول التي لم تشهد أو تصلها ظاهرة الربيع العربي بعد أن تحسم أمرها حيال الخيارات في هذه الأنماط درءا للمستقبل بالاستفادة من تجارب الغير نقلا عن الوطن السعودية