كثيراً ما نسمع في سياق الدفاع عن جمود السلفية على يد أتباعها من المتأخرين بأن الدعوة السلفية دعوة عقائدية تدعو إلى الالتزام بالكتاب والسنة، وأن الاجتهادات الفقهية المتشددة أو الفتاوى المستندة إلى التقليد الخارجة عن زمانها لا علاقة للدعوة السلفية بها. ويستشهد البعض بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وبأنها لم تكن إلا دعوة عقائدية مجردة لا علاقة لها بالفقه مطلقا. وهذا الطرح الذي يقصر الدعوة السلفية على العقيدة والتوحيد فيه محظور عقائدي نظري ومحظور عقائدي تطبيقي ومحظور سياسي كما أن فيه هضم للدعوة وتجاهل للواقع المطبق. فاختزال دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب على العقيدة مطلقا فيه محظور عقائدي نظري خطير. فهذا الاختزال يعني أنها دعوة ارجائية تدعو للتوحيد العقائدي مجردا دون الاهتمام بتطبيق هذا التوحيد بين الناس في معاملاتهم. وهو بالضبط جوهر مفهوم فصل الدين عن الحياة العملية وعن الدولة والمعاملات، الذي اتخذته الكنيسة منهجا لها بعد أن ثار عليها شعوبها. وأما المحظور العقائدي التطبيقي فيتخلص بأن كل ما صدر ويصدر من فتاوى واجتهادات من علماء السلف لا علاقة له بالتوحيد. كما أن فيه إيحاء، بأن الدعوة لا يلزمها الالتزام بالكتاب والسنة في الاجتهادات الفقهية وفي أحكام المعاملات. وأما المحظور السياسي، فدستور الدولة السعودية هو الإسلام الصافي الذي تمثله السلفية والذي أحياه الشيخ محمد بن عبد الوهاب. فإن كانت الدعوة هي مجرد دعوة عقائدية محضة، فبم يحكم القضاء وعلى ماذا تستند تشريعات الدولة؟ والقضاء والتشريعات كلها أمور معاملاتية! فإن قيل تستند على الإسلام عموما، فما هي الحاجة إذا لربط دستور الدولة السعودية وقضائها بالسلفية وبدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب!؟ وهذا الاختزال للدعوة على العقيدة، فيه أيضاً هضم وظلم للدعوة السلفية ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتجاهل للواقع التاريخي والواقع المطبق. فالسلفية كانت وما زالت دعوة عقائدية تعبدية معاملاتية، لم تنفصل قط عن الأحكام التعبدية والمعاملاتية. ولكنها تجمدت في دعوتها العقائدية على النهي عن شرك القبور والتوسل ونحوهما، رغم ندرة هذا النوع من الشرك اليوم في بلادنا خاصة ولم تبذل جهدا في تطوير هذه الدعوة العقائدية لتهاجم الإلحاد الذي أصبح هو الخطر الحقيقي القادم اليوم، كما أنها لم تتجاوز في تواصلها مع الأديان الأخرى إلا في حدود الدفاع السلبي والتبجيل والثناء على السلفية، وتكرار مختارات من التاريخ القديم. كما أنه قد أدركها هذا الجمود في فقهها، فكأنها - من باب التشبيه التقريبي - ألحقت الاجتهادات الفقهية القديمة بالأمور العقائدية. فجعلت من التقليد في الفقه وكأنه أمرا عقائديا لا يُراجع ولا تُناقش صحة القول من عدمه إلا نظريا خلف الأبواب المغلقة، على أن يستمر العمل على الاجتهادات القديمة ولو أظهرت النقاشات خلف الأبواب المغلقة خطأه ومخالفته للكتاب والسنة. والأمثلة على الجمود الفقهي وخاصة في باب المعاملات والقضاء أكثر من أن يحيط به مقال. ولكن على سبيل التمثيل ببعض الأمور الظاهر حكمها شرعا والتي لها أثر عظيم وكبير على الأمن الاجتماعي وإدارة الدولة فتوى منع الدولة من جباية زكاة الأراضي ( وليس حكم زكاة الأراضي) رغم أن سنة النبي وصحبه والسلف أجمعوا على جباية الأموال الظاهرة. وكان من حيثيات فتوى المنع أن هذا ما كان عليه العمل أيام الملك عبد العزيز!!! جمود على القديم. (وقد كتبت مقالين في هذا الموضوع). ومن الأمثلة تقنين القضاء الشرعي وتحديثه بالخبراء القانونيين، وأحكام تكافؤ النسب. وكذلك الإصرار على فتوى ربوية النقد الحديث، رغم ظهور بطلان العلة المعتمدة وإرهاق الاقتصاد الوطني، بالتضييق على الناس في التمويلات وتعطيل سوق السندات وثم بدلا من تجديد الفتوى بناء على المعطيات الجديدة والحرج العظيم الذي حصل بسببها، كان السكوت عن ما يسمى بالصيرفة الإسلامية وما فيها من تلاعب باسم الدين، واستخفاف بجدية نصوصه. وما في هذه الصيرفة من تشكيك للنشء المسلم الجديد بدينهم، مما يرونه من مهازل الصكوك والقروض التي تنسب بأنها هي شريعة الله للمسلمين. وكذلك لم يأتِ جديد بعد الفتوى بحرمة اليوم الوطني ما ينسخ الفتوى القديمة. وكذلك موضوع المرأة وقيادة المرأة. فالذي يشكل رأي الشريحة الشعبية المعارضة لكل المواقف الإصلاحية هو موقف السلفية القديم من هذا، وعدم قيام السلفية المعاصرة بنقض الموقف القديم بناء على ما تغير من معطيات والوقوف صراحة مع الإصلاحات الحديثة. ومن الأمور الهامة التي ابتعدت فيها السلفية عن حقيقتها، هو الدعوى إلى تعظيم المشايخ، وحكر العلم الشرعي وحجب الأدلة الشرعية التي تخالف أقوالها عن الناس. ولو تخلت السلفية المتأخرة عن التقليد وعن نزعة التحريم وما تعتقده بأنه هو المصلحة، لما خرجت عن الكتاب والسنة ولما وضعت الناس في حرج قط، فما جعل الله على عباده من حرج، بل العباد هم من يضعون الأغلال والأصرار على أنفسهم بغير علم. ولو أردنا أن نتتبع كثيرا من الفتاوى والآراء والتي تغيرت لاحقا أو سُكت عنها، فسنجد أن مرد ذلك هو فرض الدولة للأمر الواقع، ثم تأتي بعد ذلك الفتاوى الجديدة المؤيدة أو يُصمت عن الفتاوى والآراء القديمة حتى تُنسى. ومن الأمثلة على ذلك تأسيس أرامكو رغم المعارضة الدينية وتحرير الرقيق، وتعليم المرأة والابتعاث وغيره كثير. نقلا عن الجزيرة