يتسم المشهد العربي العام بحالة من السيولة، وعدم الاستقرار، وغياب اليقين إزاء المستقبل. صحيح أن اندلاع ما بات يعرف بثورات الربيع العربي، التي أسقطت أربعة رؤساء عرب حتى الآن، أحيت آمالا وتطلعات جديدة لدى هذه الشعوب العربية وغيرها، نحو التغيير، والإصلاح، لأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، غير أن ذلك لم يتحقق بشكل ملموس حتى الآن، وبالطبع لا يمكن تجاهل طبيعة المرحلة الانتقالية، التي تتسم بالتعقيد والتشابك.. ونذكر هنا طبيعة التحديات والعقبات الموضوعية والذاتية، والدور (المحفز أو الكابح) للعاملين الإقليمي والدولي، وقبل كل شيء كيفية التعامل مع حجم التركة الثقيلة التي أورثتها أنظمة الاستبداد والفساد القديمة، التي من مؤشراتها، التدهور الاقتصادي / الاجتماعي، مما انعكس في النسب المرتفعة في حجم، الفقر، المديونية العامة، والعجز في الميزانية الحكومية، وحيث لاتزال مكونات النظام القديم (رغم غياب الديكتاتور) تمتلك مرتكزات قوية على صعيد أجهزة الدولة، ومؤسساتها المختلفة، وكذلك تأثيرها الملحوظ بين بعض مكونات وشرائح المجتمع، ناهيك عن هيمنتها على الصعيد الاقتصادي، حيث ساد التداخل والتشابك القوي ما بين السلطة والمال.. غير أن كل تلك التحديات يمكن تجاوزها مع قيام وترسيخ الدولة المدنية العادلة، بمؤسساتها الدستورية التي تتضمن فصل واستقلالية السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية) الثلاث، وتأكيد قيم وحقوق المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. لكن ما يثير القلق والخوف هو تزايد وتعمق الانقسامات الدينية والطائفية والمذهبية والمناطقية والاثنية ما بين مكونات المجتمعات العربية قاطبة، ولا نستثنى هنا الديمقراطيات العربية الناشئة. وهو ما يتطلب اليقظة والحذر وفضح وعزل القوى والجماعات المتطرفة، بغض النظر عن تمظهراتها المذهبية والطائفية أو دوافعها واستهدافاتها وأجندتها المعلنة أو الخفية، حيث باتت جل المجتمعات والبلدان العربية تعيش واقعا مريرا غير مسبوق، من حيث درجة الانقسام، الاحتراب، الفرقة، والشلل الذي يأخذ مداه (أفقيا ورأسيا) على مستوى النظم والشعوب والمجتمعات والنخب في الآن معا. يتعين هنا ملاحظة العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والإعلامية المساعدة على نجاح سياسة التأجيج والشحن الطائفي في المنطقتين العربية والإسلامية، التي لا يمكن عزلها عن سياسات وممارسات حكومية خاطئة تنتهك قيم حقوق المواطنة ومواثيق حقوق الإنسان، كما أنه إفراز لبيئة اجتماعية سياسية اقتصادية وثقافية داخلية مأزومة في المقام الأول. وهذا لا يعني إطلاقا تجاهل دور العامل الخارجي (الدولي والإقليمي)، الذي يستفيد من هذه الأوضاع، ويعمل على توظيفها وفقا لمصالحه وأجندته واستهدافاته الإستراتيجية. إزاء تصاعد الخطاب الطائفي، اكتفت جل الحكومات والنخب العربية إما بالتجاهل أو الإنكار، أو من خلال إجراءات فوقية، وشكلية محدودة وجزئية، للتغطية على تلك المشكلة الخطيرة وإفرازاتها السلبية، مما سيعمل على إطالة أمدها وتفاقمها، وفي الوقت نفسه لا يمكن تجاهل الممارسات والتصريحات الرعناء من قبل المتشددين والتكفيريين في المذاهب كافة، بما في ذلك الإساءة إلى المعتقدات ورموز الأديان والمذاهب المختلفة.. التأجيج الطائفي يجد تربته في ضعف وتشوه وعدم تبلور الدولة وغياب أو ضعف الهوية الوطنية الجامعة، بسبب الفشل أو التعثر في تحقيق التنمية المستدامة والمتوازنة بأبعادها المختلفة، وبناء الدولة الحديثة التي تستند إلى مفاهيم المواطنة المتساوية للجميع في الحقوق والواجبات، وإلى مبادئ وقيم الحرية والتعددية والعدالة بين مكونات المجتمع كافة. نقلا عن عكاظ