من الصعب التكهن بمسار وآفاق موجة التحركات الشعبية السريعة والمتلاحقة التي يشهدها بعض دول العالم العربي منذ بداية شهر يناير من العام الحالي 2011، والتي دشنتها ثورتا تونس ومصر، اللتان اتسمتا بوجه عام بالطابع السلمي / المدني للتحركات الشعبية، وأفضت إلى إسقاط رأس النظام فيهما، وتقويض بعض مرتكزاته وهياكله الهامة. ما سهل عملية التغيير في البلدين وجود الحد الضروري للتجانس الوطني، الاجتماعي ، الهوية، الثقافة، ومستوى نضج التقاليد السياسية والمدنية، وحضور مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات واتحادات وجمعيات ، كما لا نستطيع تجاهل موقف الحياد الواضح أو المتعاطف مع التحرك الثوري والاحتجاجات الشعبية ومطالبها العادلة من قبل المؤسسة العسكرية (الجيش)، وبالتالي رفضها استخدام القوة ضد الثورة أو الانجرار للتورط في الصراع الداخلي، ناهيك عن دور العامل الخارجي المتمثل في مواقف الدول الكبرى وخصوصا الولاياتالمتحدةالأمريكية التي فاجأتها تلك التحركات الثورية ، والمظاهرات المليونية وخصوصا في مصر ، ولم يكن أمامها سوى التسليم بحقيقة انتهاء النظام. الأمر الذي جعلها تدخل على خط الأزمة والصراع بفاعلية، ومارست الضغط سياسيا وإعلاميا وماليا على رأس النظام وأفراد عائلته لمطالبته بالرحيل، متجاوزة بذلك حالة التردد والمراوحة التي اتسمت بها مواقفها الأولى، وذلك بهدف الحفاظ على بعض مصداقيتها فيما يتعلق بالقيم والمبادئ التي تطرحها وتسوقها كونيا، مثل حقوق الإنسان والحرية والديموقراطية، وقبل كل شيء استهداف الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في مصر وعموم المنطقة العربية مستندة في ذلك إلى مقولة إنه ليس هناك صداقات دائمة ، ولكن هناك مصالح ثابتة. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا لم يتكرر نجاح نموذجي الثورة والتغيير في تونس ومصر في بلدان عربية عديدة أخرى، تشهد بدورها تحركات واحتجاجات وثورات شعبية واسعة؟ وهل هذا يعني أن ما حدث في تونس ومصر هما الاستثناء الذي يثبت القاعدة ولا ينفيها؟ من الواضح أن بعض الأنظمة العربية المأزومة ليبيا مثلا التي أخذتها مفاجأة الحدثين التونسي والمصري أخذت تبدي إصرارا وعنادا متزايدا في عدم التسليم أو الاستسلام أمام إرادة الشعوب، مستخدمة في ذلك كل ما في حوزتها من مصادر القوة والسلطة والثروة ، وقبل كل شيء استنادها إلى ماكينتها العسكرية والأمنية المرعبة، ناهيك عن اللعب على وتر المؤامرات الخارجية من جهة ، والانقسامات الداخلية الحقيقية أو المصطنعة، وذلك عبر استغلال وتوظيف وجود الهويات الفرعية الخاصة، وتأجيج التناقضات الدينية والمذهبية والقبلية والجهوية من جهة أخرى. لسان حال العديد من الرؤساء والأنظمة الحاكمة هو تخيير شعوبها بين التسليم ببقائها أو نشر وتأجيج الفوضى والصراع والانقسام الداخلي. هذا الاستغلال والتوظيف للهويات الفرعية فشل في مصر (بين المسلمين والمسيحيين الأقباط) وفي تونس (سكان الساحل الشمالي وسكان الجنوب)، غير أن ذلك لا ينطبق بدرجات متفاوتة في بلدان أخرى. ليبيا يجري الحديث فيها عن صراعات قبلية وجهوية (شرق وغرب) مع أن الصراع يتمحور أساسا بين غالبية الشعب الليبي على اختلاف منحدراتهم المناطقية والقبلية من جهة، وبين نظام الديكتاتور القذافي وكتائبه الأمنية والعسكرية ومرتزقته الأجانب من جهة أخرى. الرئيس اليمني الذي يواجه بدوره تحركات شعبية شملت كافة أرجاء اليمن، أثار مخاطر داخلية متنوعة من شأنها تهديد وحدة واستقرار اليمن في حال رحيله، من بينها خطر القاعدة والحراك الجنوبي في الجنوب، والحوثيين في الشمال، واللعب على وتر الانقسامات القبلية، وكثافة انتشار السلاح بينهم 50 مليون قطعة سلاح غير أنه لم يتبين صحة هذه المخاوف على أرض الواقع حتى الآن. بالتأكيد يأمل الجميع في وضع نهاية سريعة لمأساة اليمن استجابة لمطالب الشعب، كما يتطلع غالبية اليمنيين إلى إنجاح المبادرة الخليجية على هذا الصعيد، والتي نأمل أن تمتد لتشمل دولا أخرى في المنطقة. في سوريا يفسر الصراع بأنه نتاج مؤامرة خارجية وداخلية، ووجود مجموعات أصولية لبث الفتنة، في موريتانيا يسلط الضوء على التناقضات والخلافات بين العرب وبين من هم من أصول أفريقية الذين يطلق عليهم من قبل بعض الموريتانيين العرب بشكل عنصري بغيض «العبيد». عدم المعالجة الصحيحة لموضوع الهويات الفرعية ومنها الدينية والطائفية والمذهبية والأثنية الفرعية واحترام خصوصيتها ومصالحها ضمن إطار الهوية الوطنية الجامعة هو العامل الحاسم في تفسخ وتشطير كيانات وبلدان عربية كما هو حاصل في السودان والصومال. كما نستحضر هنا الحروب الأهلية والصراعات الدامية التي شهدها لبنان والعراق واليمن وخلفت وراءها خسائر بشرية ومادية جسيمة. بالطبع لا يمكن فصل ذلك عن ما هو حاصل في العراق من احتقانات واصطفافات طائفية، وكذلك من تدهور العلاقات الإيرانية / الخليجية، وخصوصا مع تطور الأحداث المؤلمة في البحرين، وإعلان الكويت كشفها لشبكة تجسس تعمل لصالح إيران، وغير ذلك من المسائل. على هذا الصعيد أكد الغالبية الساحقة من الشيعة العرب في الخليج مرارا وتكرارا، قولا وعملا، أنه لا يمكن المزاودة عليهم باعتبارهم جزءا أصيلا وقديما جدا من النسيج والمكون الوطني والاجتماعي لبلدانهم وشعوبهم، يشاطرونها أحلامها وتطلعاتها في دفع عجلة التغيير والتطور والإصلاح إلى الأمام، وبناء دولة القانون والمؤسسات، وترسيخ أسس الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات بين الجميع، وبالتالي لم ولن تكون لهم، أو لغالبيتهم الساحقة على الإطلاق صلة أو علاقة بأي أجندات أو استهدافات خارجية لأي دولة أجنبية بما في ذلك إيران، التي لا يجمعها معها سوى المذهب، وهو ما تمثل تاريخيا في تصويت الغالبية الساحقة من سكان البحرين (شيعة وسنة) على استقلال البحرين ورفض التبعية لإيران. كما يستحضرنا هنا التصريح الأخير للشيخ علي سلمان زعيم حركة الوفاق في البحرين في معرض تطرقه وتعليقه إزاء التطورات الداخلية الخطيرة التي تمر بها البحرين، بأنه يرفض أي تدخل لإيران في الشؤون الداخلية للبحرين. لقد امتزجت دماء الكويتيين (سنة وشيعة) إبان مقاومتهم البطولية للقوات المحتلة التابعة لنظام صدام حسين الديكتاتوري. من جهتهم أكد شيعة السعودية على الدوام على خيارهم وانتمائهم الوطني النهائي، وقد سبق لهم أعلنوا بكل وضوح استعدادهم التام للدفاع عن أرض الوطن إبان احتلال القوات العراقية للكويت، وتهديد صدام حسين باجتياح الأراضي السعودية، والأمر ذاته تكرر إبان تسلل الحوثيين إلى بعض قرى وأراضي المملكة. يتعين هنا قطع الطريق أمام القوى والجماعات والجهات المتطرفة والموتورة بغض النظر عن عنوانها وردائها الديني والطائفي والتي تعمل جاهدة على بث روح الفتنة والفرقة بين مكونات الشعب والمجتمع والوطن الواحد تنفيذا لمصالحها وأجندتها الخاصة. نقلاعن عكاظ