يبدو انقسام السودان عصيّاً على الفهم، أو يشكّل نوعاً من الخروج عن مألوف الثقافة السياسية التي طالما جرى الترويج لها في البلدان العربية، فبدلاً من توجه هذه البلدان نحو الاندماج، أو الاتحاد في دولة واحدة، إذا بأكبر بلد عربي (2.5 مليون كلم مربع) يعجز عن الحفاظ على وحدة أراضيه، ويتّجه نحو خروج الشطر الجنوبي منه، في حين تهدد مناطق أخرى بالذهاب نحو المصير نفسه (دارفور مثلاً). والأنكى من ذلك أيضاً، أن هذا المآل السوداني يبيّن أنه ليس ثمة إخفاق في التشكّل كأمة عربية واحدة فقط، بل ثمة إخفاق حتى في التشكّل على صيغة شعب واحد في كل بلد من البلدان العربية. وفي هذا الوضع، فإن السودان ليس مجرد حالة استثنائية، فثمة دعوات للانشطار - تحت مسمَّيات وشعارات مختلفة - في اليمن والعراق ولبنان وفي بعض دول المغرب العربي. وتكمن معضلة الثقافة السياسية العربية السائدة في أنها تركز على عنصر الأرض أو الجغرافيا كحامل للوحدة الدولتية، أكثر من تركيزها على العوامل الأخرى، المتمثلة بدرجة الاندماج الاجتماعي، ومدى تبلور المصالح الاقتصادية المشتركة، وطبيعة الثقافة السائدة، ومستوى تطور مؤسسات الدولة. ومعلوم أن هذه العوامل (الأخرى) هي بالضبط التي تحصّن الوحدة الجغرافية، وتشرعن وجود الدولة (بمؤسساتها ورموزها)، وهي التي تؤسّس للمخيّلة الجمعية للمجتمع، وتصوغ هويته وروايته التاريخية، إزاء الوحدات الدولتية والمجتمعية الأخرى. ولعل ذلك هو الذي يفسر حال الحيرة والقلق والخوف التي تنتاب الشارع العربي من هذا المسار الانقسامي للأرض (أي في جغرافيا السودان أو غيره)، في حين لا تظهر هذه الأعراض عليه بالدرجة ذاتها إزاء الانقسامات والتمزقات التي تحيق بأوضاع المجتمعات في معظم البلدان العربية. وإذا نحّينا الانقسام الفلسطيني جانباً، لخصوصياته المرتبطة بالصراع مع إسرائيل والخلافات السلطوية الفلسطينية، فإن أوضاع معظم البلدان العربية ومجتمعاتها لا تبدو أحسن حالاً بكثير من السودان، حيث تعاني بدورها من انقسامات وتمزّقات مجتمعية (عشائرية وطائفية ومذهبية وإثنية ومناطقية) لا تقل في درجة تهديدها أو خطورتها عن مخاطر الانقسامات الجغرافية. ولنأخذ مثالاً أحوال الطوائف المسيحية في المشرق العربي، والتي باتت تجد نفسها - في هذه المرحلة - في وضع خطر إزاء العمليات الإرهابية التي باتت تستهدفها (كما حدث مؤخراً في العراق ومصر)، وإزاء بعض التشريعات القديمة والمجحفة التي تحدّ من إمكانيات تطبيع وجودها، كما إزاء تنامي النعرات الطائفية والمذهبية في هذه المنطقة. ثمة أيضاً تخوّفٌ مقيم في عديد من البلدان العربية من محاولات تسعير فتنة سنية شيعية (من العراق إلى لبنان، مروراً بدول الخليج العربي)، كما ثمة مشكلات إثنية في أكثر من بلد عربي، ولا سيما في العراق والسودان وبعض بلدان المغرب العربي. هنا ينبغي لفت الانتباه إلى أن هذه الظاهرة التفتيتية، عدا عن أنها تعبّر عن تأزّم في الأوضاع الداخلية، تعتبر احد إفرازات تداعيات «العولمة»، التي وحّدت وقسّمت، وجمّعت وجزّأت. وهكذا، نشهد اليوم اتجاهين، فبينما ينحو العالم المتقدم، أو الذي يسير على سكة التقدم، نحو مزيد من التكامل والتوحد، ينحو العالم المتأخر أو النامي نحو مزيد من الانقسام والتجزّؤ، لأسبابه الخاصة، أي لقابليته الذاتية لذلك، ولعدم تمكنه من مواكبة مسارات التطور. على ذلك، ليس المهم التباكي على ما يجري للسودان، على أهميته، وإنما الأهم من ذلك استنباط العبر المناسبة للحؤول دون تعميم هذا المسار، على الصعيدين الجغرافي والمجتمعي، في باقي البلدان العربية. وينبغي أن يكون في مقدمة هذه العبر إدراك حقيقةٍ مفادها أنه لا يمكن التعويل على استمرار وحدة جغرافية أو سياسية لبلد ما في وضع يكابد فيه هذا البلد تمزقات اجتماعية على خلفيات دينية أو إثنية، أو كليهما. كما لا يمكن المراهنة على استقرار هكذا وحدة في وضع تعاني فيه مناطق واسعة في أطراف معظم البلدان العربية من التهميش والحرمان من الموارد، في واقع باتت فيه عواصم هذه البلدان تتحكم بأكثر من ثلثي الموارد والتوظيفات الاستثمارية، مع حزام فقر وحرمان يحيط بها من كل جانب. أيضاً، لا يمكن التعويل على وحدة جغرافية وسياسية وقانونية في بلدان ما زالت تعرّف بعض فئات من مجتمعاتها على أنها «أقليات»، فكيف يستقيم ذلك مع بشر يعيشون على هذه الأرض منذ مئات السنين، بلغتهم وعاداتهم وثقافاتهم؟ ثم كيف يمكن أن تعرَّف جماعات بشرية كهذه باعتبارها أقليات وهي أصلاً لم تتحدّر من أراض أخرى، وليس ثمة وطن آخر لها؟ هكذا، مثلاً، لا يمكن اعتبار الجماعات الشيعية (أو غيرها من الجماعات المذهبية) في بلدانها «أقليةً» لمجرد أنها تعيش بين أكثرية سنية، والعكس صحيح أيضاً، تماماً مثلما لا يمكن أن تعرّف الطوائف المسيحية (وضمنها الأقباط في مصر) بأنها «أقليةٌ» لمجرد إنها تعيش بين أكثرية مسلمة، كما لا يمكن أيضاً نعت الأكراد والأمازيغ في البلدان التي يعيشون فيها بأنهم «أقلية»، لمجرد أنهم يعيشون بين أغلبية عربية. إن الحل لكل هذه الإشكاليات بسيط وواضح، وهو يكمن أولاً في إعادة صوغ الهوية الجمعية لهذه البلدان، بما لا يخلّ بالمكوّن الهوياتي الأساسي (العربي)، وبما لا يذوّب، أو يهمّش العناصر الهوياتية الأخرى، أو الفرعية. ويكمن الحل ثانياً في إعادة الاعتبار للدولة باعتبارها دولة مواطنين متساوين أمام القانون، بصرف النظر عن مذاهبهم وطوائفهم وإثنياتهم وجنسهم. وثالثاً، ربما يتطلب ذلك أيضاً إعادة بناء الدولة العربية: من دولة تقوم على المركزية الشديدة (وهي مركزية سلطوية) إلى دولة مدنية تتأسّس على نوع من اللامركزية في الإدارة، بما يتيح توزيعاً أكثر عدالة للموارد، ومشاركة أوسع في تقرير شؤون البلاد. وما ينبغي إدراكه جيداً هنا، هو أن البديل عن حال التشظي الداخلي (المجتمعي)، وعن حال «الطلاق»، أو الانقسام الجغرافي والسياسي، إنما يكمن، وبكل بساطة، في إعادة الاعتبار للدولة باعتبارها دولة مؤسسات وقانون ومواطنين، وفي إصلاح أنظمة الحكم والقوانين والتعليم في البلدان العربية. كما يمكن الاستنتاج من درس السودان أن الشرعية الدولتية (شرعية الحكم) لا يمكن أن تتحقق بمجرد الهيمنة السلطوية على الدولة والمجتمع، وإنما هي تتحقق بفضل الدولة والمجتمع في آن معاً، وإذا خسرت السلطة احدهما، أو كليهما، فإنها ستخسر شرعيتها، وربما تخسر ذاتها أيضاً. * كاتب فلسطيني