ثقافة المجتمع يقصد بها مجموعة القيم والعادات والسلوكيات التي يعملها أفراده بصورة دائمة حتى ولو تغيرت بيئات التنفيذ. وهي معيار ومؤشر لقياس جودة المجتمعات ورقي حضاراتها السلوكية. وإن من أجمل وأروع السلوكيات التي تشكل المجتمع وترفع مستواه الحضاري ثقافة الإتقان في الأعمال والأقوال لأفراد المجتمع ومجموعه. وثقافة الإتقان وجودة الأفعال والأقوال مطلوبة من كل الأفراد على مختلف طبقاتهم وأعمالهم، فهي تشمل الأمير في إمارته، والوزير في وزارته، والمدير في إدارته، والمعلم في مدرسته، والطبيب في عيادته، والمهندس في مصنعه، والموظف في وظيفته، والباحث في معمله، والطالب في مدرسته أو جامعته، والداعية والإمام في مسجده، والأم في منزلها... إلخ، كلهم شركاء في المسؤولية ومطلوب منهم الإتقان كل على حسب مهمته. لذلك، غرس ثقافة الإتقان في المجتمع أمر ذو أهمية كبرى، نظراً لما يترتب عليها من فوائد ومكتسبات حضارية مثل: • أنها تعد علاجا وقائيا ومصلا اجتماعيا نافعا للأجيال القادمة، فعندما تغرس وتزرع من الآن سيجني ثمارها بالتأكيد أبناؤنا وأحفادنا. • تعتبر وسيلة مهمة لتطوير المجتمع الحالي من حيث أفكاره وسلوكياته، وبالتالي ارتفاع مستواه الحضاري السلوكي بين أفراده وأمام المتعاملين معه من بقية شعوب الأرض. • هي من أقوى وألطف الأدوية لعلاج التصرفات السلوكية الحضارية الخاطئة التي نراها في أنفسنا وفي مجتمعنا، مثل تدني الإنتاجية، وسوء التعامل والتصرف مع الآخرين والممتلكات العامة، وعدم الاهتمام بمعالي الأمور... إلخ. • هي وسيلة فاعلة لتحسين الصورة الذهنية لمجتمعنا عند بقية الأمم والشعوب، خاصة أن بلادنا -ولله الحمد- تضم بين جنباتها الحرمين الشريفين مأوى الأفئدة، وتتشرف بلادنا الغالية باستضافة بضعة ملايين سنوياً من الحجاج والمعتمرين لزيارتهما. • عند رفع الاهتمام بما يترتب على ثقافة الجودة والإتقان من التخطيط الجيد والتنفيذ الفعَّال، وقياس الأداء والتحسين المستمر لأفعالنا وأعمالنا وسائر شؤون حياتنا سيتحول المجتمع إلى مجتمع منتج يحافظ على المكتسبات ويقلل من الخسائر والهدر في الموارد المالية والبشرية. • غرس هذه الثقافة الإيجابية في المجتمع سيؤدي لا محالة إلى جودة مخرجاته، وبالتالي ستكون ذات تأثير نفسي كبير في أفراد المجتمع من حيث رضاه عن نفسه وثقته بها. وبناءً على مجمل كلام أهل الشأن من المختصين في علم الاجتماع والتربية أن ثقافة المجتمع كغيرها من الأمور، يمكن تعديلها وتحسينها إذا اتبعت الوسائل السليمة والآليات الفعَّالة واستغرقت زمنها المناسب. وبالتالي فإن ثقافة الإتقان يمكن زرعها وترسيخها في المجتمع، خاصة مع وجود الأرضية المناسبة للجهود المبذولة والصفات الجينية القابلة لذلك. ومن الوسائل التي، دائماً، يتطرق لها المختصون والمتحدثون في هذا المجال ما يلي: 1. زرع وترسيخ مفاهيم وثقافة الإتقان لدى الصغار من خلال التعليم وإبداع الوسائل المناسبة والمحببة لنفوسهم، فضخ مصل الإتقان في جذور الأمة وهو طريق فعّال لزرعها في الأجيال القادمة بها. وقد سعدت كثيراً حينما علمت أخيرا أن وزارة التربية والتعليم أبدت تفاعلها وتحمسها لتدريس مواد علمية مبسطة عن الجودة ومفاهيمها في مدارسنا. وكذلك المجلس السعودي للجودة قد بدأ في إعداد حملة توعوية عن الجودة في مرحلة الطفولة، آملاً أن ترى النور قريباً وتؤتي ثمارها. 2. بث مفاهيم الجودة والإتقان عبر وسائل الإعلام المختلفة المرئية منها والمقروءة والمسموعة، واستغلال المناسبات الدورية في ذلك كأسبوع الجودة العالمي مثلاً. وهنا أدعو وزارة الثقافة والإعلام إلى مزيد من التعاون الإعلامي مع الجهات المختصة بأنشطة الجودة لتغطيتها مع تبني سياسة إعلامية مستمرة خلال فترات العام لنشر ثقافة الجودة والإتقان. 3. بما أن الجودة والإتقان مفاهيم إسلامية أصيلة فإن وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والأوقاف هي بدورها أيضاً مطالبة ببث هذه المفاهيم عبر المحاضرات الدينية وخطب الجمعة وحث العلماء والدعاة والأئمة والخطباء على ذلك. وإن من أروع الخطب التي سمعتها وتحدثت عن الإتقان خطبة للشيخ الدكتور سعود الشريم على منبر الحرم المكي الشريف قبل سنتين تقريباً، فجزاه الله خيرا على هذه السنة الحسنة. 4. غرس القدوة الصالحة في المجتمع من نشر بعض السلوكيات التي يجب أن يتبناها الآباء والمربون والمعلمون والمثقفون في مجتمعنا الكريم بصورة فردية وجماعية كنشر ثقافة تحديد المعايير والمؤشرات، والابتعاد عن بعض المفاهيم السلبية التي تنتشر في المجتمع من الأفعال والأقوال كقولهم على سبيل المثال: بالبركة! ومش حالك! ... إلخ. 5. من أهم الوسائل في هذا الباب وضع الخطط الإستراتيجية والآليات التنفيذية الوطنية لنشر ثقافة الجودة في المجتمع وليس في القطاعين الحكومي والصناعي فقط، وإصدار ميثاق وطني شامل للجودة لجميع أفراد المجتمع، وهذا ما نتمنى أن تنجح في تنفيذه الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة وضمه للإستراتيجية الوطنية للجودة التي وافق على البدء بإعدادها خادم الحرمين الشريفين. ونحن على ثقة تامة على حرص القائمين عليها بالتنبه لهذا الأمر. القارئ.. ما سبق التنبيه إليه إنما هو محاولة فردية بسيطة لنتبنى ثقافة الإتقان ونحيا بها، واعلم أن لديك ولدى كل أفراد مجتمعنا الغالي ما سيكون إضافة قيمة لهذه المحاولة، ما سيكون -بإذن الله تعالى- سبيلاً للمساهمة في تصحيح وتحسين كثيرٍ من شؤون حياتنا وتعديل الصورة الذهنية لأمتنا أمام الأمم والشعوب، التي، مع الأسف الشديد، تعتقد أن الأمتين الإسلامية والعربية أبعد الأمم والشعوب عن صفة الإتقان، على الرغم من أننا أمة لها جذورها العميقة والحقيقية في مسيرة الجودة والإتقان قولاً وفعلا من كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. وهذا يستدعي منا جميعاً أن نكون كما كانت أمتنا، أمة تعيش حياتها وتستنشق هواءها، وتنشر خصالها وأفعالها من خلال صفة الإتقان والإحسان .. فهيا بنا.. ولنستعن بالله .. فهو المتقن .. وهو نعم المولى ونعم النصير. نقلا عن الاقتصادية