من المعروف أن النقل العام له أهمية كبيرة جداً في تسيير عجلة الحياة خصوصاً في المدن الكبرى في جميع أنحاء العالم، ولعل من أهم وسائل النقل العام المعروفة حالياً شبكة المواصلات تحت الأرضية والتي أصبحت من السمات المميزة للمدن الحديثة مثل لندنوموسكو وباريس وغيرها من العواصم الأوروبية. إن حفر الأنفاق تحت الأرض وبناء شبكة مواصلات حديثة من خلالها أصبح صناعة متعارفاً عليها وأصبح لهذا النوع من الأعمال اتحادات وشركات متخصصة تعقد لها اللقاءات والمؤتمرات وورش العمل ومن ذلك ورشة العمل التي عقدتها ونظمتها وزارة النقل قبل ست سنوات والتي كان الهدف منها تقديم ومناقشة أحدث المفاهيم الخاصة بعوامل السلامة في الأنفاق والمنشآت تحت الأرض بالاضافة إلى الصيانة وإدارة المخاطر ومن الجدير بالذكر ان المملكة عضو في الاتحاد الدولي للأنفاق. وحيث إن المملكة مقبلة على تبني مثل هذا النوع من المواصلات خصوصاً في المدن الكبيرة مثل مدينة الرياض التي أقر مشروع النقل العام فيها من قبل مجلس الوزراء الموقر وحدد لتنفيذه مدة زمنية لا تتجاوز ثماني سنوات. وبما أن ذلك المشروع يتضمن الاستفادة من الانفاق تحت الأرض فإن أخذ العبرة والتجربة والخبرة العالمية بعين الاعتبار له أهمية كبرى خصوصاً الحديثة منها. هذا من جانب ومن جانب آخر فإن التخطيط الاستراتيجي لمثل ذلك المشروع سوف يجعل فوائده متعددة ومتكاملة. أي ان مشروع الانفاق المزمع تنفيذه يجب أن يستخدم لأكثر من غرض خصوصاً إذا علمنا ان الأنفاق تستخدم في أمور عديدة منها على سبيل المثال لا الحصر: * تمديد شبكة المواصلات الحديدية تحت الأرض والتي لها أثر كبير في فك الاختناقات المرورية وسرعة الوصول وتجنب العوائق وسلاسة الحركة. * تمديد وتمرير شبكة الخدمات المختلفة مثل الماء والكهرباء والهاتف والألياف وغيرها وتسهيل صيانتها وتحديثها ومراقبتها وحمايتها. * استخدمت أنفاق المواصلات تحت الأرض في كل من موسكوولندن وغيرها خلال الحرب العالمية الثانية كملاجئ من قصف الطائرات الألمانية. * في الدول التي يحدث فيها فيضانات متكررة استخدمت الأنفاق كمجارٍ للتخلص من مياه الفيضانات وخير مثال على ذلك مشروع نفق سمارت في مدينة كولالمبور العاصمة الماليزية وذلك بالاضافة إلى استخدامه لحل مشكلة الاختناقات المرورية هناك. ومشروع سمارت في كولالمبور عبارة عن مشروع استراتيجي ذكي ومبتكر جاء لحل مشكلتي الفيضانات المتكررة والزحام المروري. ويتكون هذا المشروع من نفق له ثلاثة طوابق تعمل وفق الأحوال الجوية الآتية: - في غياب العواطف وانخفاض مستوى نزول المطر يعمل الدور الأول والثاني كطريق لحركة المرور أما الدور السفلي الثالث فيبقى غير مستخدم (مغلق). - في حالة العواصف المتوسطة يظل الدور الأول والثاني العلويين مفتوحين أمام حركة المرور أما الدور الثالث السفلي فإنه يفتح لتصريف أية كمية فائضة من المياه. - في حالة العواصف الهوجاء يتم اغلاق الدور الأول والثاني أمام حركة المرور وبعد التأكد من خلوهما من حركة المرور والسيارات يتم فتح بوابات النفق بأدواره الثلاثة أمام الماء وذلك للتخلص من مياه الفيضان وبعد هدوء العاصفة وتصريف مياه الفيضانات يعاد فتح النفق أمام حركة المرور خلال (48) ساعة. إن مشروع نفق سمارت في ماليزيا مشروع ضخم ومعقد ومكلف وطبقت فيه تقنيات عالية في مجالات جديدة مثل الانذار والاخلاء والأمن والأمان والطوارئ والتحكم والمراقبة والجاهزية والاستعداد وغيرها مما يلزم لادارة مشروع مبهر أثبت ان فوائده مبهرة أيضاً. * أصبحت الأنفاق تحت الأرض جزءاً من البنية التحتية العسكرية وذلك للامداد والمواصلات والتكتيك والمناورة والاختباء ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك ما تقوم به إيران وحزب الله في جنوب لبنان وحركة حماس في قطاع غزة، وقبل ذلك وبعده نجد الجيش الإسرائيلي أخذ يستعد لسيناريوهات الحرب تحت الأرض وذلك من مبدأ أخذ جميع الاحتمالات بعين الاعتبار. وإذا كان الأمر كذلك فإن المملكة مندوبة للاستفادة من هذا النوع من الأنفاق خصوصاً في المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية مثل المنطقة الشرقية وغيرها. بعد هذه المقدمة أعود لأقول: ان كثيراً من المخططات السكنية والتجارية في كل من مدينة الرياضوجدة وغيرها من المدن لم يأخذ بعين الاعتبار البعد البيئي ولذلك تم ردم بعض الأودية ومجاري السيول وتحويلها إلى أحياء ومجمعات سكنية مما ترتب عليه حدوث فيضانات وتجمعات مائية يزيد من حدتها غياب مجاري الصرف في بعض الأحياء وعدم كفاءتها إن وجدت في أحياء أخرى عن سوء تنفيذ بعض مشاريع الطرق والأنفاق ولعل خير مثال على ذلك كارثة جدة المشهورة وعاصفة الرياض التي أغلقت بعض الأنفاق. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى تفتقر جميع مدن وقرى المملكة للملاجئ التي يحتاجها الناس وقت الأخطار أبعدها الله عنا ولكن في ضوء وجود تهديدات وعدم استقرار في المنطقة التي تتجاذبها التهديدات الايرانية من جهة والعدو الصهيوني من جهة أخرى وامتلاك كل منها لأسلحة الدمار الشامل التي يأتي السلاح النووي في مقدمتها، فإن المملكة مندوبة لتبني خطة استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار ان الملاجئ تعتبر جزءاً لا يتجزأ من البنية التحتية للمدن السعودية. وعليه فإن مشروع انفاق النقل العام المزمع تنفيذه في كل من مدينة الرياض وغيرها من المدن الرئيسية في المملكة يعتبر امراً يجب أن يخدم أكثر من هدف إذا خطط له بصورة استراتيجية بحيث يصمم لكي يخدم حركة المرور. وتصريف مياه السيول وتمديد شبكة الخدمات من ماء وكهرباء وهاتف وغيرها بالاضافة إلى امكانية استخدامها كلاجئ وقت الحاجة لا قدر الله. وهذا بالتأكيد سوف يكون أوفر مادياً وتقنياً وصيانة وتشغيلاً ومراقبة واستخداماً من أن يتم القيام بمشاريع مختلفة كل منها يخدم هدفاً دون تعاون أو تكامل بين القطاعات المختلفة مما يترتب عليه كثرة الحفريات وتعطيل حركة المرور وزيادة الزحام المروري خصوصاً وقت الذروة. ولعل ما نشاهده في مدينة الرياض من حفريات وتعديل مسارات واختناقات مرورية خير شاهد على ذلك.. إن حفر الأنفاق العميقة التي يصل عمق بعض منها إلى أكثر من (40) متراً سوف يمكن من التحكم بمسار النفق وطوله واتساعه خصوصاً مع وجود التقنية الحديثة لحفر الأنفاق مثل تلك التي استخدمت في تنفيذ نفق سمارت في كوالالمبور في ماليزيا، ولعل من أهم الدوافع لانشاء الأنفاق في الدول المختلفة انها تساعد على تجاوز العقبات والعوائق التي تظهر على سطح الأرض وانها توفر انتقالاً مباشراً للناس والبضائع من دون الحاجة إلى الالتفاف حول هذه العوائق فهي تنفذ تحت الجبال والأنهار والبحار والمناطق السكنية والصناعية المكتظة بهدف نقل الناس والبضائع بالسيارات والقطارات ومن أجل مرور المياه وأنابيب الغاز أو شبكة الكهرباء والهاتف وغيرها من الخدمات. وعلى العموم فإن الحديث عن التكاليف المالية ذو شجون في جميع الأمور فأغلب الشركات العالمية تقوم بتنفيذ المشاريع المتشابهة في الدول المختلفة بتكاليف متباينة قد تصل في بعض الأعيان إلى أربعة أضعاف أو أكثر وأصبح الاطلاع على هذا التباين ميسوراً بفضل الانترنت فما عليك إلا ادخال اسم المشروع ومواصفاته والبحث عن مكان تنفيذه في اليابان أو ألمانيا أو الصين أو كوريا أو ماليزيا أو أمريكا وسوف تجد ما يشيب له الرأس عند تنفيذ تلك الشركات لمشاريع مماثلة في الدول النامية أو الأكثر نمواً مما يدفع بالكثيرين إلى التساؤل عن سبب تلك الاختلافات. ولعل من أبرز تلك الأسباب غياب الكفاءات الوطنية المؤهلة والمخلصة القادرة على التفاوض العلمي. وفرض أفضل الشروط وأنسبها ناهيك عن قدرتها على المتابعة والتطبيق وقبل ذلك وبعده غياب المؤسسات الوطنية المؤهلة للقيام بمثل تلك المشاريع وقدرتها على توطين التقنية والتدريب عليها. وفي غياب هذين العنصرين يصبح الباب مفتوحاً أمام عدم الوفاء بالمواصفات وعدم القدرة على التشغيل والصيانة مما يترتب عليه استمرار الحاجة إلى الخبرة الأجنبية في جميع الفعاليات وبالتالي عدم الاكتفاء الذاتي وكل تلك الأمور تفتح الباب على مصراعيه للفساد المادي والإداري وما يترتب عليها من خسارة وتخلف.. والله المستعان. نقلا عن الرياض