لاحظ بعض المفكرين المستنيرين أن "الربيع العربي"، يكاد يخلو من المثقفين. وزاد بعضهم كمراد وهبة الفيلسوف المصري، والمفكر السياسي، ورئيس قسم الفلسفة في جامعة عين شمس، ومؤلف عدة كتب في الأصولية والليبرالية، والمحاضر لعدة فترات في جامعات الغرب، وخاصة الجامعات الأميركية في التأكيد على أن "الربيع العربي" وخاصة في مصر، يخلو من المفكرين. وأن ثورة بلا مفكرين هي مجرد انقلاب على السلطة. وكان الفيلسوف المصري مراد وهبة، قد قال إن ثورة 25 يناير 2011 ثورة بلا مفكرين، ولا فلاسفة. وإن هذه الثورة عبارة عن مظاهرات مختلفة في شوارع مصر، طالبت في البداية بالقوت، وفرص العمل، ثم تطورت إلى المطالبة بتغيير النظام، ثم إسقاط النظام. وكان وقودها الشباب، من كافة المستويات التعليمية. لقد كان للثورات الثلاث الكبرى في التاريخ (الفرنسية، والأميركية، والروسية) فلاسفة ومفكرون، تنبَّؤوا بها، وبرمجوا أفكارها، وأعدوا خططها، وخطاباتها. فأين هم من ثورة 25 يناير المصرية؟ وكيف تكون هناك ثورة بلا مثقفين، ومفكرين، وفلاسفة؟ لقد خلت الثورة المصرية 1952 من المفكرين، والمثقفين، والفلاسفة. وكانت النتيجة أن انتهت هذه الثورة، وزالت، برحيل قائدها عبدالناصر، بعد 19 سنة من الحكم. والثورات لا تنتهي هكذا بسهولة. فالثورة الفرنسية باقية حتى الآن بإيجابياتها، والثورة الأميركية كذلك. ولولا الاستبداد، والطغيان، ودكتاتورية الحزب الواحد، والعقيدة السياسية الواحدة، لعاشت الثورة الروسية أكثر من سبعين عاماً (1917-1989). ومطالبة وهبة بوجوب إشراك المثقفين والمفكرين في ثورة 25 يناير، هدفها إبعاد الثورة عن طريق الديكتاتورية، الذي تمثَّل برفضها لكل نقد يوجه إليها، بحيث أصبحت معظم وسائل الإعلام المصري الحكومي والأهلي تتردد، وتخشى من نشر أو إذاعة ما يُبرز عيوب وسلبيات ثورة 25 يناير. ولكن المثقفين ملومون كثيراً. فقد انتقد أكثر من مفكر عربي معاصر موقف المثقفين العرب من "الربيع العربي" مؤخراً. وكان النقد يتركز في أن المثقفين يقفون موقفاً سلبياً من القضايا والمعارك التي تخوضها بلادهم. وكلهم كما قال – عبد الكريم غلاّب – يتحملون مسؤولية إزاء أنفسهم، وإزاء أوطانهم. فهم مخطئون في فهم معنى الثقافة في العصر الحديث. ذلك أن مفهوم الثقافة اليوم – كما قلنا في مقالات سابقة – لم يعد كلاماً يُجتر، والمثقف لم يعد ساكن البرج العاجي. والمطلوب من المثقفين، إعادة النظر في مفاهيم الثقافة الآن. علماً بأن المثقفين الأوروبيين في النصف الأول من القرن العشرين، وقبل ذلك، قد أدركوا المفاهيم الجديدة للثقافة. فها هو الكاتب الإيطالي انطونيو جرامشي (1891-1937) ينادي بضرورة أن يكون المثقف مثقفاً عضوياً؛ أي أن يكون ملتصقاً بواقعه وبمشاكله التصاقاً مباشراً. وجرامشي هو صاحب فلسفة البراكسيس (النشاط العملي والنقدي - الممارسة الإنسانية والمحسوسة). ويركز جرامشي في معظم كتاباته، خاصة في "دفاتر السجن"، على تحليل القضايا السياسية والثقافية، كذلك على نقض الزعماء السياسيين ورجال السياسة والثقافة. ولهذا قام بمحاربة الفاشيستية وجهاً لوجه، فاعتقله النظام الفاشيستي الإيطالي عام 1926 وفي عام 1928، وحكموا عليه بالسجن عشرين عاماً، ورحل في عام 1937 متأثرا بنزيف في الدماغ. فهكذا كان يموت المثقفون، كما مات بعضهم في سجون الدكتاتورية القروسطية العربية في عهد عبدالناصر، وصدام حسين، والقذافي، وحافظ الأسد، وغيرهم. ولكن هؤلاء كانوا قلة قليلة، ورغم هذا أضاؤوا ولو بشموع صغيرة الطريق لنا، نحن الجيل الحالي. ولم يكن جرامشي وحده، هو الذي أعاد بناء مفهوم الثقافة والمثقف في العصر الحديث. فها هو الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا Julien Benda (1867 – 1956) في كتابه الشهير (خيانة المثقفين La Trahison des Clercs)، يأتي بمفهوم جديد للمثقف العضوي، ويقول إن المثقف هو "حامل مشعل الحقيقة الخالصة، والمُجسِّد لأفضل القيم الأخلاقية والضميرية، والمستعد للتضحية من أجلها. وهو الذي جعل الإنسانية جديرة بإنسانيتها عبر التاريخ من سقراط، وفولتير، وسبينوزا، وأرنست رينان، وصولا إلى سارتر، وبرتراند راسل، وبيير بورديو، وإدوارد سعيد، وغيرهم. ويقول الناقد المصري صبري حافظ إن بيندا، "لا يستخدم المصطلح المألوف (Intellectuals) للحديث عن المثقفين، وإنما يستعمل مصطلحاً له أصداؤه الروحية (Clercs) لأنهم رعاة الحق والخير والحقيقة، وأصداء مصطلحه تلك تعارض كل ما هو مادي ودنيوي، وترتفع بالمثقفين فوق العادي والمألوف. فالمثقف الحقيقي عنده له سلطة أخلاقية، تفوق كل سلطة دنيوية أو مادية". فهل خان جُلُّ المثقفين مهمتهم؟ من الواضح في أدبيات القرن العشرين أن الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا كان أول من نبهنا لأهمية المثقف ودوره البارز في مجتمعه عام 1927، ثم في الطبعة الثانية عام 1946 من كتابه المذكور، بعد تحرر فرنسا من النازية، ووقوف كثير من مثقفيها اللامعين مع النازية و"حكومة فيشي"، فيما اعتُبرت في ذلك الوقت، فضيحة كبرى، وخيانة عظمى من المثقفين الفرنسيين، لوطنهم، ولمعركة التحرير الكبرى التي قادها ديجول. ففي هذا الكتاب يؤكد بيندا، أن المثقف الحقيقي، هو الذي يقف إلى جانب الحقيقة في مواجهة القوة، وإلى جانب العدل في مواجهة الطغيان، وإلى جانب الاستقامة في مواجهة الفساد. نقلا عن الوطن السعودية