اليوم تحديداً لم يعد مفهوم الإعلام بالنسبة للدول سوى ما تملكه تلك الدول من وسائل إعلامية تابعة لها تنظيميا أو ماليا، وغالبا مثل هذه الوسائل تتكاثر في دول العالم الثالث والرابع لأنه تم إنشاء تصنيف جديد للعالم الرابع وتم تدشينه بوصول دول الثورات في العالم العربي إلى هذا التصنيف المميز سلبياً. الإعلام أو ما يسمى السلطة الرابعة مات مع ظهور الإعلام الجديد ولكننا اكتشفنا أن ورثة هذا الإعلام الذين تقاسموا ثروته بعد موته بمرض عضال اسمه الانترنت لم يمهله طويلا لذلك لم يعد الإعلام فقط مؤسسات محدودة، فقد اكتشفنا أُسراً وعائلات إعلامية ممتدة كلها ذات صلة قرابة بالسلطة الرابعة ولها الحق في وراثتها فمثلا من الأبناء (تويتر، فيسبوك ، يوتيوب ، الخ..). وكل واحد من هؤلاء لديه من الأبناء التابعين بالملايين بل بالمليارات إذا جمعناهم وكلهم ورثة يستخدمون إعلاما جديدا، ولهم الحق في المشاركة وهذا يعني أن فكرة توجيه الإعلام لم تعد ذات اثر كبير فلابد من البحث عن أفكار جديدة لتحقيق التوازن بين الورثة، وحجم الإرث الذي تركته السلطة الرابعة لورثتها. اليوم لم يعد الإعلام بحاجة إلى تخصص بل تحول إلى رأي ذي أفق واسع يشارك فيه كل البشر تقريباً والنظريات الإعلامية التي درسها الإعلاميون في كل أنحاء العالم ستعلن وفاتها بعد اقل من عقد من الزمان لأن تحولا عصريا وحضاريا جديدا حل محلها فتلك النظريات التي بنت قيمها على أساس أن هناك متحكماً بالقيم الإعلامية، وأن هناك مستقبلاً لتك القيم لم تعد موجودة اليوم. لقد تحولت القيم إلى مفاهيم تخص كل فرد في العالم ما يعني أننا سوف نستمر ولفترة طويلة أمام مفاهيم فردية إلى أن تتشكل من خلالها قيم مجتمعية تخص طرق التعامل مع الإعلام الجديد ولكن المؤكد أن توجيه الرأي لن يصمد طويلا والإعلام بمفهومه التقليدي، ولن يقاوم فكل فرد في العالم اليوم يستطيع أن يملك وزارة إعلام بكاملها فهو يستطيع أن يبث فيلماً يصوره بنفسه ويراقبه بنفسه ويكتب مقالا يجيزه بنفسه ويطرح مشكلة يناقشها بنفسه ويستطيع تشكيل رأي مجتمعي بنفسه وهو يعمل كل هذا، أيضا يستطيع أن يرسلها إلى ملايين البشر دون أن يكلفه ذلك سوى ضغطة زر على لوحة مفاتيح كمبيوتره الشخصي. التحدي الوحيد في هذه العملية هو المهارات الفردية للفرد وقدرته على صياغة أفكاره بطريقة مقنعة تؤثر في الآخرين وهذا ما يجعل متطلبات هذا الفرد تأتي من المجتمع لكي تكون مقنعة للمتلقي وهذا عكس المفهوم التقليدي للإعلام والذي يفرض ما يريد ويقتحم العقل الجمعي بطريقته الخاصة وبمعرفته ومهاراته العلمية. اليوم يستحيل أن تكون الأجهزة الإعلامية التابعة للدول في العالم الثالث والرابع تحديداً قادرة على اقتحام المجتمع بنفس القدرة التي كانت عليها في السابق وخاصة أنها تعاني هي أيضا من وسائلها التقليدية في التوجيه. صراع القيم بين السياسة والإعلام في العالمين الثالث والرابع يدخل منعطفا مهماً فليس أمام الكثير من الدول سوى مخرج وحيد وهو أن تتصف بالشجاعة وتعلن أنها تقبل أن ورثة الإعلام أو السلطة الرابعة لهم الحق في إرثهم وتتعاطى معهم وفق هذه الفرضية أو تنتظر حتى يقوم الإعلام الحديث بإعلان وفاتها من خلال إهمالها وجعلها تموت ببطء دون رعاية أو اهتمام من أحد. دليلي على ذلك في المستوى العربي تحديدا ذلك الانفجار في البث التلفزيوني والانترنت الذي صاحب الثورات العربية فكم من القنوات الفضائية التي لا تخضع لرقابة الإعلام التقليدي، وكم من البشر من مشتركي الانترنت الذين اكتشفوا مسارات الإعلام الجديد، فاليوم لم يعد الخبر من مصدرة التقليدي يقنع أحدا سوى جيل من الآباء والأمهات الكبار في السن بل إن الخبر من مصدره التقليدي أصبح يسرب إلى الإعلام الجديد قبل أن تنشره وسائل الإعلام التقليدية. لقد أصبحت القيم السياسية وهي أحد التصنيفات الستة المعروفة للقيم في تصنيفها العلمي والنظري طاغية على الفرد في مجتمعات العالمين الثالث والرابع الذي وجد نفسه يدير وزارة إعلامه من خلال جهازه الخاص فكما هو معروف أن القيم السياسية هي قيم تدفع الفرد إلى البحث عن دور في الحياة من خلال الشهرة أو النفوذ في معترك الحياة.. ولعل أهم ما يميز الأفراد الذين يؤمنون بهذه القيم هو القوة والمنافسة والقدرة على توجيه الرأي في المجتمع. والثورة المصرية على سبيل المثال أنتجت لنا ذلك، ووائل غنيم مثال قريب. الإعلام التقليدي اليوم لا يستطيع فرض ما يريد بالقوة ولو كان ذلك بنشر المادة الإعلامية التي يريدها بل إن ذلك يساهم وبشكل حقيقي في مزيد من العزلة للإعلام التقليدي في الدول التي لا تزال تعتقد أن الإعلام يستطيع توجيه المجتمع كما كان يفعل قبل عقود.. المجتمعات اليوم تتفاعل مع ذاتها في معادلة سياسية واجتماعية بعيدا عن الإعلام الحكومي في مجتمعه فالتعاطي اليوم هو بين أطراف داخل المجتمع تصنع موقفها من قضية معينة ثم تطرحها للجميع. بينما يحاول الإعلام التقليدي أن يكون طرفاً في القضية المطروحة اجتماعياً ولكنه يفشل في اغلب الأحيان لأن مهارات الأفراد في التعاطي الإعلامي الجديد تفوق وبكثير مهارات الإعلام التقليدي. الكتاب والصحفيون اليوم في عالمنا المحيط أمامهم خيار صعب بين أن يكونوا جزءاً من الإعلام التقليدي، أو جزءاً من الإعلام الحديث فهناك محاولات كبيرة من الكثير من الإعلاميين في العالم العربي تحديدا للعب دور مزدوج بين التيارين ولكن فرضية الانتماء المزدوج قد لا تطول لفترات طويلة بسبب الكم الهائل من الداخلين للإعلام الجديد الذين ليس لهم انتماء للإعلام التقليدي فبعد فترة سيشكل هؤلاء سحباً كبيرة تحجب شمس الإعلام التقليدي مهما كانت حرارتها وقربها من الأرض. من اكبر الأدلة على صراع القيم بين الإعلام والسياسية في عالمنا العربي تحديدا هو ارتباك المواقف الرسمية التي اتجه بعضها إلى الإعلام الجديد متجاوزا عالمه التقليدي لينشر وجهة نظره عبره، وهذا ارتباك يتطلب التوقف كثيرا حيث لا مجال فالقيود في الإعلام الجديد تختلف عن القيود في الإعلام التقليدي لذلك لابد من تصورات علمية صحيحة لكيفية التوافق والدخول مع الإعلام الجديد وذلك يتطلب تغيير المسار وترميم الإعلام التقليدي ليتوافق وبشكل حديث مع الإعلام الحديث. صراع القيم هنا لابد أن ندرك انه يطرح أسئلة مهمة مثل: إلى أي مدي سيكون التباين في النظرة إلى القيم الإعلامية بين المجتمعات المالكة للإعلام الجديد والإعلام التقليدي المملوك للسياسة..؟ وسؤال آخر يقول هل سيحافظ الإعلام التقليدي في العالم العربي على نفس الدرجة من الانتماءات للكتاب والصحفيين أم سيجد نفسه أمام انقلاب منهم...؟ هل فعلًا يستطيع الإعلام التقليدي تحريم الإعلام الجديد وإصدار فتوى مجتمعية ببطلانه..؟ هذه جزء من أسئلة مستقبلية لابد من طرحها لأن المستقبل في الإعلام اليوم على المستوى العالمي أصبح أكثر وضوحاً فقد كُتبت لوحات الاتجاهات الجديدة في الإعلام الجديد، ونحن فقط ننتظر الوصول إليها قريباً فهل يغير العالم العربي اتجاهه أم سيتوقف أمام تلك اللوحات عندما يصل إليها ليسأل عن مدلولاتها الفكرية؟! نقلا عن الرياض