هناك كثير من الأسئلة التي تلح على القارئ والكاتب العربيين، وأقصد بها الأسئلة التي تربط بين العروبة والأصالة والخصوصية من جهة والمعرفة من جهة أخرى. ففيما يتعلق بالشأن الفلسفي والفكري تأخذ الأسئلة هذه الصيغ التالية: «هل هناك فلسفة عربية؟» ، أو «هل لدينا فلاسفة عرب معاصرون؟»، وقد تعود إلى الماضي على الصيغة التالية: «هل كانت الفلسفة العربية القديمة أصيلة وإبداعية؟». ولكن هذه الأسئلة التي تعرب عن إشكالات عميقة هي ذاتها مشكلة. إنها من النوع الذي يستبطن تقريرات وإجابات مسبقة، وهذا ملاحظ بناء على أغلب الأطروحات التي تصدت لها. وسواء كان الجواب بالنفي أو بالإيجاب أو بين بين، فإن هناك ما هو غائب عن التساؤل. وقبل الحديث عن هذا «الغائب»، دعوني أوضح أن هذه الأسئلة تنتمي إلى حقبة تاريخية ليست بعيدة ولكنها ماضية. أقصد إنها تنتمي إلى «ما قبل العولمة» و «ما قبل الانفجار التكنولوجي وثورة الاتصالات» وأيضا وهذا هو المهم «ما قبل الربيع العربي». إذن سأناقشها باعتبارها أسئلة تاريخية عالقة. ومن الضروري جدا حل الإشكالات التاريخية العالقة من أجل الحاضر، و «حلها» لا يعني فحسب «الإجابة» عنها، بل و «التحرر» منها أيضا. فالتحرر هدف أخلاقي للتساؤل التاريخي، وأنا أتحدث خصوصا عن الحالة العربية. فلنعد إلى الأسئلة الغائبة، «ما هي الفلسفة؟!». هذا سؤال لا يحضر عند التصدي لمناقشة «هل لدينا فلسفة عربية؟». صحيح أنه يحضر في مجالات أخرى ولكن عند التساؤل عن «فلسفة عربية» يختفي، أقصد أن معنى الفلسفة هنا يصبح وكأنه أمر مفروغ منه ومسلم به، لسبب بسيط وهو الاعتماد على التعريف «الغربي: اليوناني والأوروبي»، وفي بعض الأحيان يحضر التعريف العربي المضاد ( الفلسفة باعتبارها علما للكلام مثلا!)، على أن علم الكلام يختلف عن الفلسفة اختلافا جوهريا فالفلسفة تأسيس وعلم الكلام تأصيل، أي أنه محكوم بمبادئ ثابتة وسابقة عليه. هذا الغياب أو الاختفاء هو أس المشكلة.. لقد بدأت الفلسفة اليونانية بالتساؤل عن «ما هي الفلسفة؟»، وتفاوتت الأجوبة وجاء المؤرخون لاحقا وثبتوها في حدودها التاريخية المقررة. وحدثت الثورة في الفكر الأوروبي الحديث مع إعادة تعريف الفلسفة والتفلسف مع ديكارت ومن تلاه، فتم اختراق تلك الحدود التاريخية ورفضها. إذن، نحن نتساءل: «هل يوجد لدينا فلسفة عربية؟». والحقيقة إن السؤال هو التالي: «هل يوجد لدينا فلسفة عربية أوروبية؟!». الجواب: لا ، لا يوجد سوى فلسفة أوروبية!!، فهل في هذا مشكلة؟، أي «هل هناك مشكلة أن تكون الفلسفة العربية أوروبية؟!»، نعم. فقط بالنسبة لمن طرح السؤال بهذا الشكل الخاطئ. السؤال الثاني الغائب حول «الفلسفة العربية» هو الكلمة الأخرى (عربية). ما معنى عربية؟، ما معنى أن تكون الفلسفة عربية؟، ماذا يلزمها لتكون كذلك؟، هذا السؤال متعلق بما قبله. إذن فقد تم تجاهل هذين السؤالين الضروريين اللذين هما البداية الصحيحة للتفلسف. ولو أن الجهود التي بذلت لمناقشة الأسئلة التقليدية (هل لدينا فلسفة عربية، أو فلاسفة عرب؟)، توجهت إلى وجهتها الصحيحة لاختلف الوضع. فلنتخيل أن مفكري العرب حاولوا الإجابة بالفعل (ربما أن هناك محاولات فردية ولكنها لم تأخذ طابعا عاما)، سيكون جوابهم بالتأكيد تأسيسا حقيقيا لما يريدون ( أي لفلسفة عربية خاصة ومستقلة)، أو بعبارة أوضح: لفلسفة إنسانية يكون للمفكرين العرب نصيب كبير في تأسيسها. إن التساؤل عن ماهية الفلسفة يقتضي أولا قراءة النظر الفلسفي الأوروبي (واليوناني طبعا) قراءة نقدية واثقة. لا يهم أن يقطعوا مع التعريف الأوروبي للفلسفة أو لا، المهم أن يكون هناك نظر فلسفي نقدي مستقل. وبما أن «الفلسفة» بطبيعتها لا تستقر على قرار واحد، فإن أية محاولة جادة للنظر الفلسفي ستكون جديدة ومختلفة. أما الاقتضاء الثاني للتساؤل فهو البدء من الصفر. والمراد بالبدء من الصفر الإبداع بكل ما تحمله الكلمة من معنى، التأسيس المتجدد، فمما تأنف منه الروح الفلسفية الحقة هو الثبات على منهج واحد أو التحرك في أفق واحد، والتأسيس أو البدء من الصفر معناه الجرأة في طرح الأسئلة وفي حرث الأرض باستمرار. لقد أدى فلاسفة الإغريق الدور بكل جدارة وأحدثوا تأثيرا هائلا لأنهم بدؤوا من الصفر، لأنهم بدؤوا بالسؤال وليس بالجواب. والبدء بالسؤال يعني رفض كل جواب مسبق ومقرر أو على الأقل وضعه جانبا. ففي مراحل التاريخ القديمة كان البدء من الصفر مشروعا لمحدودية العلوم والعلماء مقارنة مع عصرنا الحاضر. لو أن ابن رشد أو ابن سينا أو غيرهما مثلا كلفوا جهدهم ومارسوا أحد هذين الاقتضاءين أو كليهما (وهما نقد الفكر اليوناني، والبدء من الصفر ) لكان لدينا تراث «خاص» ولكانت لدينا «هيئة تلق» مستقلة عن هيئة التلقي اليونانية والأوروبية. إنني أتحدث عن عصور ما قبل العولمة، وستكون مفاهيم ك «الخاص» و «غير الخاص» ، و«الأصيل» و «الدخيل» و «الأنا» و «الآخر» حاضرة بوصفها مفاهيم جوهرية للفكر العربي لا يمكن فهمه بدونها. إذن إشكالية السؤال هي أن كلمة «فلسفة» مناقضة لكلمة «عربية» تبعا لمنطق السؤال كما تجلى في القرن العشرين تحديدا. وأما الفلسفة العربية الإسلامية القديمة فلم يكن سؤال الأصالة والحداثة حاضرا، أي لم يكن ضروريا أن تكون هناك (فلسفة) و(عربية) في آن، بل (فلسفة يونانية) و(غير مخالفة للدين) في آن. وهنا فرق كبير، فهذه الأخيرة لا تعتزم الاستقلال عن التحديد اليوناني للفلسفة، بل يهمها فقط اعتراف رجال الدين بها، بخلاف الأولى التي برزت مع ظهور النزعات القومية العربية حيث ظهر الحلم بتحقيق فلسفة عربية أصيلة ومستقلة. ولكن عبارة (فلسفة عربية) عبارة متناقضة كما قلت قبل قليل، لأننا ببساطة نجعل معنى الفلسفة «يونانيا أو أوروبيا» بحيث لا مزيد لدينا على ما أنجزوه في هذا الجانب، ثم نطالب بأن يكون لديك «فلسفة عربية أصيلة»!. نقلا عن عكاظ