يرى المتشبعون بفكرة الإسلام السياسي أن علماء الشريعة في السعودية هم علماء سلطان، وأن دورهم لم يرق إلى الدور المؤمل، من وجهة نظرهم السياسية، القائمة على مقارعة الحاكم ومنافسته على السلطة. وفي المقابل، يرى بعض من يعتنق الفكر الليبرالي أنهم لا يختلفون عن رجال الدين في أوروبا إبان تسلط الكنيسة في العصور الوسطى. بل يذهب البعض أبعد من ذلك فيدعو إلى جعل المثقف المرجعية الوحيدة للدولة، فهو الوحيد القادر على تقديم الرأي السديد، والمشورة الصادقة، في أمور الدين والدنيا معا. بمعنى آخر، إقصاء علماء الشريعة عن المشاركة في صنع القرار السعودي. كلا الطرفين ينظر إلى موقف واحد ولكن بنظارتين مختلفتين إلى حد التضاد. وكلا الرأيين فيه التجني والتحامل على علماء السعودية ودورهم التاريخي والمحوري في المساهمة في الاستقرار السياسي والاجتماعي وفي مسيرة المشروع النهضوي للدولة السعودية الحديثة. فالشواهد على دورهم في بناء الدولة في كافة مراحلها التاريخية هي شواهد لا تحصى ولا يمكن أن يحجبها رأي متحامل هنا أو هناك. فالأسس والمفاهيم التي قامت عليها هذه الدولة، لا تسمح بحال من الأحوال أن يهمَّش فيها العلماء، فقد قامت هذه الدولة على مفاهيم وأسس تختلف عن المفهوم السياسي السائد الذي جاء به (روسو) في عقده الاجتماعي، بأن الناس قد تعاقدوا فيما بينهم، على إنشاء دولة، تكون مقتضياتها أن تسير وفق إرادة الشعب أو أغلبيته. فمفهوم السعوديين للدولة، هو امتداد للمفهوم الشرعي، القائم على السمع والطاعة لولي الأمر، ومبايعته على ذلك. فبناء الدولة في السعودية لا شك أنه قام على أساس الوحدة الوطنية، التي حققها الملك عبد العزيز، رحمه الله، بين فئات المجتمع في الجزيرة العربية، إلا أن ذلك ما كان ليتحقق في ظل القبيلة وتفرعاتها والإقليمية وخلفياتها والطائفية واختلافاتها. لذلك أدرك الملك عبد العزيز، أن تحقيق تلك الوحدة وبناء الدولة، في الجزيرة العربية، لا يمكن أن يتحقق في بيئة كتلك، إلا بوجود العقيدة كعامل وحدة. وبالتالي قيام الدولة السعودية غير مدين للناس أو للشعب، كما جاء في نظرية روسو، بل مدين للدين ولولي الأمر المطبق للشريعة. من أجل ذلك حرص الملك عبد العزيز على إخضاع هذه الدولة الحديثة عند تأسيسها للشرع، وأثناء بناء مؤسساتها وأنظمتها. وكان ذلك من خلال استشارة العلماء. يقول رحمه الله «وإني أنفذ القول الذي يجمع عليه العلماء، والقول الذي يقع الخلاف بينكم فيه أيها العلماء فإني أعمل فيه عمل السلف الصالح، إذ أقبل ما كان أقرب إلى الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال العلماء الأعلام المعتمد عليهم عند أهل السنة والجماعة» (خير الدين الزركلي- شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز. 1985م). تلكم هي العلاقة بين العلماء والدولة في السعودية، علاقة بناء ونهضة، لا علاقة تنافس على السلطة. كما أنها ليست وصاية وكهنوتية كما يحلو للبعض أن يصفها. بل هي علاقة تقوم على السمع والطاعة والنصح والمشورة في السر للحاكم. يقول الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، مفتي الديار السعودية ورئيس القضاة في زمانه، في رسالة لأحد الدعاة «بلغني أن موقفك من الإمارة ليس كما ينبغي، وتدري - بارك الله فيك - أن الإمارة ما قصد بها إلا نفع الرعية وليس شرطها ألا يقع منها زلل، والعاقل بل وغير العاقل يعرف منافعها، وخيرها الديني والدنيوي يربو على مفاسدها بكثير. ومثلك إنما منصبه منصب وعظ وإرشاد وإفتاء بين المتخاصمين ونصيحة الأمير والمأمور بالسر، وبنيّة خالصة، تُعرف فيها النتيجة النافعة للإسلام والمسلمين. ولا ينبغي أن تكون عثرة الأمير - أو العثرات - نصب عينيك والقاضية على فكرك والحاكمة على تصرفاتك، بل في السر قم بواجب النصيحة، وفي العلانية أظهر وصرح بما أوجب الله من حق الإمارة والسمع والطاعة لها، وأنها لم تأت لجباية أموال وظلم دماء وأعراض من المسلمين ولم تفعل ذلك أصلا إلا أنها غير معصومة فقط. فأنت كن وإياها أخوين، أحدهما: مبين واعظ ناصح، والآخر: باذل ما يجب عليه، كاف عن ما ليس له، وإن أحسن دعا له بالخير ونشط عليه، وإن قصر عومل بما أسلفت لك. ولا يظهر عليك عند الرعية - ولا سيما المتظلمين بالباطل - عتبك على الأمير وانتقادك إياه، لأن ذلك غير نافع الرعية بشيء، وغير ما تعبدت به، إنما تعبدت بما قدمت لك ونحوه أن تكون جامع شمل لا مشتتا، ومؤلفا لا منفرا. واذكر وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى (يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا وتطاوعا ولا تختلفا).. أو كما قال صلى الله عليه وسلم.... [2081375ه الفتاوى (12182-183)]. تلكم هي العلاقة بين العلماء والدولة والتي أرسى قواعدها الملك عبد العزيز وسار على نهجه أبناؤه من بعده، وصولا إلى عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز. وما قرار الملك عبد الله، في خطابه الأخير أمام مجلس الشورى، حول السماح بمشاركة المرأة كعضو فاعل في مجلس الشورى والمجلس البلدي، وما بينة الملك، من أن ذلك تم بعد مشورة هيئة كبار العلماء، إلا دليل واضح على استمرار النهج الذي أسس له الملك عبد العزيز في علاقة العلماء والدولة في السعودية، وعلى رسوخ هذه العلاقة واستمرارية دورها في إنجاح المشروع النهضوي السعودي المنضبط شرعا. هذا القرار الذي أكد فيه الملك أنه سيكون وفقا للضوابط الشرعية، ركيزته عقيدة صحيحة ومنهج إسلامي وسطي، يؤهل السعوديين، لمقابلة العصر وتحدياته، للتأسيس عليه، لاستمرار كيانهم. وتجدده بما يتلاءم مع متطلبات كل مرحلة.. قدوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها» ومن خلال التيسير المحقق للمصلحة في جميع المجالات سار السعوديون جميعا حكاما وعلماء في مشوارهم الحضاري لبناء الدولة في علاقة منسجمة ومتوازنة، فلا ولاية فقيه ولا كهنوت لديهم ولا أتاتوركية عندهم، ولا متخلف عن الركب يمنعهم، فالعلماء والدولة في السعودية... وصل وفصل نقلا عن الشرق الاوسط السعودية