بلغت شخصية المؤسس الملك عبد العزيز- رحمه الله - من البساطة مدى شديد الوضوح والصراحة في تكوينها العربي والإسلامي.وقد عبرت سيرته، رحمه الله، عن البعد العربي والإسلامي في أخلاقه وأفكاره، ومقدرته العظيمة على تأسيس دولة مترامية الأطراف وبنائها وحمايتها وتسليمها للجيل التالي من أبنائه.. ويذكر الدكتور محمد بن سالم العوفي،في بحث مطول،هذه الحقيقة،ويكشف على أسرار مهمة في تكوين شخصية الملك عبد العزيز، من خلال سيرته وأحداث حياته،قبل تأسيس الدولة،وأثناء بنائها. وفي هذه السيرة الطويلة ملخص نهائي للعبقرية التي تتسم بها الشخصية العربية والإسلامية.. وبخاصة حين تكون في موقع القيادة.. مؤمن بربه يقول سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز في حديث له ضمن حوار تلفزيوني وثائقي عن الملك عبد العزيز: ((.. ان أهم خصلة في الملك عبد العزيز هي إيمانه بالله قبل كل شيء)). وقد نشأ الملك عبد العزيز في بيئة صالحة، رباه والده على كريم الأخلاق ونبل الخصال،وتعاليم الدين، التي تلقاها من نبعها الصافي، فكان رحمه الله وقافاً عند حدود الشرع، يكره المعاصي صغرت أم كبرت، محافظاً على الصلاة حتى في أحلك الظروف،وهو يواجه أخطر المواقف؛ ففي ليلة اقتحام قصر المصمك، وفي انتظار خروج عجلان، عامل ابن رشيد على الرياض، في تلك اللحظات المصيرية، يستيقظ عبد العزيز، ويصلي مع رفاقه، ويتجه إلى ربه خاشعاً متبتلاً.وعند ملاقاته لابن رشيد بالقرب من الدلم،حول نعجان، سرى عبد العزيز ليلاً،ودخل بيت شيخها عند انبثاق الفجر، فصلى ونام مطمئناً،واثقاً بنصر الله. وكان رحمه الله لا يشرب محرماً، ولا يشهد ولا يسمع منكراً،وهو في عبادته (( لا يتشدد تشدد المغالين، ولا يتهاون تهاون الكسالى المفرطين)) يقول عنه عبد الله القصيمي: ((..لا يقدم على كلام الله وكلام رسوله وكلام صحابته وأئمة الإسلام كلاماً. وهو يبدأ إذا ما احتج لمسألة سياسية كانت أو اجتماعية بكلام الله، وبكلام رسوله وصحابته إذا ما حضره شيء من ذلك..)). يتردد في مجلسه دائماً قال الله، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الأئمة،وقال الشاعر العربي. ومن كلامه: ((.. طالماً القرآن بين أيدينا،فلا خطر على ديننا)) لذا كان الملك فيصل رحمه الله يقول: (( البيت السعودي بيت دعوة قبل أن يكون بيت ملك)). ويقول سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز: ((.. هدف عبد العزيز هو إقامة دولة تحكم كتاب الله وسنة رسوله..)). كما يذكر الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، “ان عبد العزيز رجل عقيدة” . لم يساير بعض الساسة الذين كانوا يجاملون الناس كسباً لتأييدهم، على حساب دينهم،وربما شاركوهم في بدعهم وخرافاتهم، بل إن إيمانه وقوة عقيدته جعلته يعمل على محاربة البدع والخرافات وتطهير الجزيرة مما يفسد على الناس عقائدهم.كانت قوة إيمان الملك عبد العزيز العامل الأساس في تكوين شخصيته،وكان رحمه الله كلما تشتد الأزمات يشتد،ويقوى ايمانه بالله. عادات يومية كانت أعماله اليومية تدور حول أوقات الصلاة، تبدأ بصلاة الفجر، وتنتهي بصلاة العشاء ومن عادته اليومية أن يستيقظ قبل صلاة الفجر بنحو ساعة،فيقرأ سوراً من القرآن،ويتعبد ويتهجد،وكثيراً ما يسمع نشيجه إلى أن يؤذن الفجر، فيصلي الصبح مع الجماعة،ويسبح ويقرأ ورد الصباح. في 18 محرم سنة 1352ه ابرق برقية إلى ولي عهده ( الأمير سعود) برقم (275) جاء فيها: (( ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور: أولاً:نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك، وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد،ونصر دين الله، وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتاً خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه، في أوقات فراغك، تعبد الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص على الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر،وصدق في العزيمة،ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه)).وفي سنة 1357ه (1938م) ارتجل خطبة في مكة جاء فيها: ((ما كنا عرباً إلا بعد ما كنا مسلمين،كنا عبيداً للعجم، ولكن الإسلام جعلنا سادة، ليس لنا فضيلة إلا بالله وطاعته واتباع محمد، ويجب أن نعرف حقيقة ديننا وعربيتنا ولا ننساهما)). بر بوالديه على مسافة ثلاثة أيام،خرج عبد العزيز يستقبل والده قادماً من الكويت بعد غياب دام إحدى عشرة سنة.وبعد استقرار الإمام عبد الرحمن،أرسل له عبد العزيز يقول:الإمارة لكم، وأنا جندي في خدمتكم. فرد عليه: إذا كان قصدك في استدعائي إلى الرياض لأتولى الإمارة فيها فهذا غير ممكن، ولا اقبله مطلقاً،ولا أقيم في المدينة إذا ألححت به.تدخل العلماء، فقالوا لعبد العزيز: على الابن أن يطيع أباه، وقالوا للإمام عبد الرحمن: أنت كوالد عبد العزيز رئيس عليه وبالتالي على أهل نجد.فقال الإمام عبد الرحمن:ولكن الإمارة له.فقال عبد العزيز:إني أقبلها بشرط أن يكون والدي مشرفاً على أعمالي دائماً، فيرشدني إلى ما فيه خير البلاد،ويردعني عما يراه مضراً في مصالحها. يقول الزركلي: (( وفي اجتماع عام حضر علماء الرياض وكبراؤها في باحة المسجد الكبير بالرياض، بعد صلاة الجمعة أعلن الإمام عبد الرحمن نزوله عما له من حقوق في الإمارة لكبير أبنائه عبد العزيز، وأهدى إليه سيف سعود الكبير، نصله دمشقي،وقبضته محلاة بالذهب،وقرابه مطعم بالفضة)).أراد الملك عبد العزيز السفر إلى الحجاز في أواخر سنة 1346ه ، فدخل على والده يستأذنه،فقبل يده مراراً، وفي كل مرة يسأله، هل أنت راض عني. فيجيب الإمام في كل مرة: لاشك في ذلك، يقول الزركلي: (( وكان ذلك آخر اجتماع له بأبيه، وصوت رضاه الأبوي يرن في أذنه حتى هذه الساعة)).يقول حافظ وهبه: ((.. وقد لاحظت مرة في إحدى زوراتي للإمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز أنه لا يقرأ الكتب التي ترسل إليه، ويردها مع الرسول كما هي، فسألته: لماذا لا تقرؤها؟ لقد أرسلها إليكم عبد العزيز: لتطلعوا عليها،ولترشدوه برأيكم إذا رأيتم فيها خطأ.فقال: ان عبد العزيز موفق، لقد خالفناه في آرائه كثيراً،ولكن ظهر لنا بعد ذلك أنه هو المصيب،ونحن المخطئون، ان نيته مع ربه طيبة، لا يريد إلا الخير للبلاد وأهلها، فالله يوفقه ويأخذه بيده، وان تنصروا الله ينصركم)). كان عمر الإمام عبد الرحمن قد جاوز المائة، وقد بلغ مرحلة من الضعف لا يقوى معها على المشي وتحمل التعب. وبينما كان يطوف بالبيت العتيق مع ابنه الملك عبد العزيز أدركه الإعياء فسقط على الأرض، وقد طاف ثلاثة أشواط فقط، فما كان من الملك عبد العزيز إلا أن حمله بيديه،وطاف به حتى أكمل بقية الطواف، لم يأمر أحداً من خدمه ومرافقيه بحمله، وإنما قام بذلك حرصاً على بره،وطلباً لرضاه. البر بالرعية ولم يكن رحمه الله باراً بوالده فحسب، بل باراً بأقاربه، يسأل عنهم، ويتفقد أحوالهم، سواء بالزيارة أو بالمحادثة، يعقد لهم مجالس خاصة بهم،لا يحضرها سواهم.بل كان باراً برعيته، يشاركهم أفراحهم وأتراحهم، فيفرح لفرحهم ويألم مما يصيبهم، أخا لكبيرهم، وأبا لصغيرهم، رحيماً بهم، شفوقاً عليهم، يسعى جاهداً لخيرهم، يوصي عماله في كل مناسبة بالرفق بهم، وأخذهم باللين،وعدم الشدة في معاملتهم إلا على الباطل،وما يخالف الشرع الحنيف. وكان يرى أن مسئوليته عظيمة- ومهمته جسيمة- أمام الله سبحانه وتعالى عن هذه الرعية. فكثيراً ما يردد في خطبه: (( الملك لله وحده،وما نحن إلا خدم لرعايانا، الكبير منكم أخ لي والصغير من أبنائي)). يصغي لكبيرهم،ويحادث ويؤنس صغيرهم، فأحبوه، وتعلقوا به، وهتفوا باسمه ملكاً وراعياً ومربياً. لذا كان من أهم وصاياه لولي عهده سعود: ((.. عليك أن تجد وتجتهد في النظر في شئون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سراً وعلانية، والعدل في المحب والمبغض،وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطناً وظاهراً، وينبغي إلا تأخذك في الله لومة لائم)). تقدير العلماء وكان الملك عبد العزيز مولعاً بالعلم، شغوفاً به، قل أن تمر عليه ليلة لم يستمع فيها إلى درس من تاريخ، أو أدب، أو تفسير، يقرأ عليه قارئ فصيح من تاريخ الطبري، أو تاريخ ابن كثير، أو تفسيره، أو كتاب الآداب الشرعية،وغيرها، وإذا انتهت القراءة كان يناقش الجالسين فيما سمعوه،ويطلب منهم إبداء آرائهم وملحوظاتهم،محيياً بذلك سنة سار عليها خلفاء صدر الإسلام،وصلحاء الأمة. حتى في سفره كان زاده العلم،لا ينقطع عن مدارسته والاستزادة منه، يروي يوسف ياسين في الرحلة الملكية إلى الحجاز،(وقد كان أحد مرافقيه في تلك الرحلة) أن في معيته عددا من العلماء،منهم الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، قاضياً لجيشه، وإمامه في الصلاة، والشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، والشيخ محمد بن عبد العزيز بن عبد اللطيف آل الشيخ، الملقب بالصحابي، والشيخ عبد الله بن أحمد العجيري، والشيخ حمد بن محمد أبو عرف الخطيب، والشيخ عبد الرحمن النفسية، وأخوه حسين، وعبد الرحمن بن مشاري بن سويلم. فكان إذا استوى على راحلته نادى: العجيري فيقبل ويتلو آيات من الذكر الحكيم بصوت جهوري مؤثر،ويظل يتلو كتاب الله حتى يؤذن للفجر، وبعد أداء الصلاة،وشرب القهوة والركوب على الرواحل نادى: ابن الشيخ، فيقبل ويتلوا آيات بينات بصوت مؤثر خشوع، حتى طلوع الفجر،ويأمره بالسكوت،ويخلو السلطان بنفسه فيقرأ أدعية مأثورة من القرآن الكريم، أو مروية في الأحاديث الصحيحة، وكذا يفعل أكثر من في الركب،وبعد طعام الضحى (المضحى) والركوب على الرواحل نادى: ابن الشيخ، فيقرأ في صحيح مسلم ما يشاء، ثم يقرأ ما تيسر من السيرة النبوية من تاريخ ابن الأثير، فتحدث قراءتها أثراً كبيراً في النفوس،وبعد صلاة العصر، والمناداة بالرحيل،وبعد أن يستوي الناس على ظهور مطاياهم ينادي: ابن الشيخ، فيقرأ في كتاب (الترغيب والترهيب)، ثم في كتاب آداب بن مفلح، حتى إذا قاربت الشمس المغيب خلا بنفسه على راحلته،وقرأ الحزب الذي اعتاد قراءته كل مساء،وبعد صلاة المغرب وشرب القهوة، والركوب على الرواحل،نادى: ابن الشيخ، فبدأ حيث انتهى بالحديث في الصباح،وهكذا طيلة أيام الرحلة لا تنقطع صلته بالعلم والاستزادة منه. اهتمامات ثقافية وكان الملك عبد العزيز يخوض في ميادين الكلام،ويناقش المختصين، يقيم عليهم حججه، ويفرض براهينه، ويدافع عن مذهب السلف، دفاع العالم المتبحر في علمه؛ يخوض في علوم التاريخ والآداب والشعر، فيثير الدهشة والإعجاب،وكان له اهتمام خاص بالشعر، وقد نقش على قصره: لسنا وان أحسابنا كرمت يوماً على الأحساب نتكل نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثل ما فعلوا فقال بعض الأدباء عندما قرأ ذلك: ان علة الشرقيين أن يفعلوا مثل فعل أوائلهم، فأصلحها الملك: ونفعل فوق ما فعلوا. كسب الخصوم كان فؤاد الخطيب وزيراً لخارجية شريف مكة، الملك علي بن الحسين، فأرسله لمفاوضة السلطان عبد العزيز أثناء حصار جدة سنة 1343ه (1924م) فعاد مفتوناً به مأسورا بشخصيته، ولم يلبث أن اصبح أحد رجاله والعاملين في ركابه. وكان نوري الشعلان، أحد مشايخ الرولة من قبيلة عنزة في بادية الشام في الثمانين من عمره عندما زار الملك عبد العزيز في مدينة الرياض، فقال له الملك عبد العزيز، وهو يشير إلى بعض من كانوا في مجلسه: أتعرف هؤلاء يا ابن شعلان. فقال: فيهم كرام من شمر. قال عبد العزيز، وأشار إلى أحدهم: هذا ابن فلان.. قتلت أباه بيدي،وهذا فلان ألقيته جريحاً أمام فرسي،وهذا فلان جاءني يوم كذا من ورائي يريد قتلي.هم كلهم اليوم ولله الحمد من رجالي وأخواني. قال نوري: سيفك طويل يا طويل العمر. قال عبد العزيز: ما أردت اصطناعهم وإنما أحللتهم في المكانة التي كانت لهم أيام سلطانهم. أنهم بين آل سعود كآل سعود.رشيد الناصر كان وكيلاً لابن رشيد في دمشق،ووسيطاً له مع العثمانيين يمده بالمال والسلاح. قال له عبد العزيز، بماذا أعاقبك؟ قال: بما تهوى، وما أنا بنادم على ما فعلت. قال: لقد أخلصت في خدمة صاحبك، وزال صاحبك،وما يزال فيك حس الإخلاص، فعد إلى دمشق وأنت وكيلي بها، وبقي مخلصاً لعبد العزيز إلى أن توفاه الله. إبراهيم الطاسان كان أحد ضباط الملك علي بن الحسين الهاشمي، سأله أحد العرفاء في الجيش السعودي،وهو يتسلم الأسلحة من ضباط جيش الإشراف، ما اسمك؟قال: إبراهيم الطاسان. (وكان معروفاً بالشدة في قتال السعوديين) فقال له العريف:واللعنة. فرد عليه إبراهيم الطاسان بالمثل،وعلت الأصوات.ووصل الخبر الى عبد العزيز، فلما أدخل عليه عرف فيه الإخلاص فعينه مديراً للطيران،فصار من كبار ضباط الجيش السعودي.((وكانت لديه قدرة عجيبة على احتواء الآخرين من شتى الثقافات والانتماءات والخلفيات أخضع البدو بشهامته وسخائه ورجولته، بايعه الريحاني اللبناني المسيحي، الأمريكي الجنسية وفيلبي الملحد ممثل الإمبراطورية،وتلاميذه محمد عبده، والأفغاني في العالم العربي،وعشاق الخلافة من مسلمي الهند،وثوارليبيا،والوفديون في مصر،والوطنيون في سوريا والعراق، كلهم بايعوه زعيماً للعالم العربي،واعتبروه المنقذ للعالم الإسلامي)). كان له مستشارون من مختلف الجنسيات العربية؛ من سوري، ولبناني، ومصري، وليبي، وعراقي، وفلسطيني،عملوا له بإخلاص إلا فيما ندر.يقول عنه سمو الأمير سلمان بن عبد العزيز: ((..فالملك عبد العزيز معروف عنه أنه يؤلف القلوب، وفي سيرته الذاتية، والمعروفة والمكتوبة والمسموعة في كل أنحاء البلاد وفي العالم.. من أهم ميزات الملك عبد العزيز- وهي كثيرة والحمد لله- أن خصمه ولا أقول:عدوه، أقول: خصمه يقلبه إلى أقرب الناس إليه، وهذا واضح في كل سيرته. وقال عنه المندوب السامي البريطاني، السيربرسي كوكس: عبد العزيز لم يخطئ قط. مدحه المفكر الإسلامي المعروف عباس محمود العقاد،وقال فيه شعراً، وقال عنه أحمد حسين، ذلك الرجل الاشتراكي الثوري: بعد ما عرفت من أمر هذا الرجل الفذ ما عرفت، أصبحت أهيم به كما يهيم الناس بالأبطال، ولقد كتبت عنه في مصر الفتاة صفحات توشك أن تتقد من الحرارة حرارة الحب والإعجاب.وقال عنه الكاتب محمد التابعي: ((.. ما من شخصية قابلت عبد العزيز وخرجت ضده، أليست ظاهرة تستحق التأمل والدراسة..)). شجاعة نادرة وقيل عن الملك عبد العزيز: انه يمثل في سيرته، سيف المعز، وعدل عمر، وذهب الرشيد.وقد بنى هذه المملكة العظيمة على أمرين:توفيق الله له، ثم جهده وسيفه، ومات رحمه الله وفي جسده ثلاث وأربعون طعنة. قتل أخوه سعد،وكان أثيراً عنده عزيزاً عليه، فنزل عن فرسه، وأخذ يقبله فسدد له بعض من يتربص به طلقة أصابت خمس رصاصات كانت في حزامه فشقت بطنه بجرح طوله 15 سنتيمترا، فكتم الأمر، وركب إلى الأحساء ودخل القصر، بل وتزوج في تلك الليلة. شكا رحمه الله من ألم في بطنه لازمه قرابة ستة أشهر، وعندما كشف عليه طبيبه الخاص «رشاد فرعون»،وجد أن هناك رصاصتين مستقرتين تحت الجلد،لابد من استخراجهما،فحضر المخدر لإجراء عملية استخراجهما، فانفجر رحمه الله ضاحكاً،وطلب إبعاد المخدر، وأمسك المشرط بيده فشق الجلد الذي فوق الرصاصتين،وأمر الطبيب أن يبدأ مهمته.كان رحمه الله يدير المعارك ويقود الجيوش بنفسه، شجاعته تتضاءل عندها الأخطار والمخاوف،وأي شجاعة أعظم من قصة فتحه مدينة الرياض، ثم كيف طوى مدن شبه الجزيرة وبلدانها الواحدة تلو الأخرى، فوحد قارة من البلدان في مدة لا يقدر عليها إلا الشجعان أمثاله. تعرض للموت مرات،وجرح مرات،وهو ماض في تحقيق هدفه لا يخشى إلا ربه, حافظ وهبة كان أحد رجال الملك عبد العزيز،حضر معه أكثر من معركة وكان ممن رابط معه في الرغامة أثناء محاصرته لمدينة جدة، ماذا يقول؟ يقول: كان عبد العزيز يدير معاركه بنفسه،وكان رائده في معاركه خالد بن الوليد.. وأشهد أن جلالته بالرغم من الأخطار التي كانت تحيط به، ما كان يتزحزح من مكانه، لقد سقطت قنبلة أمام خيمته على بضعة أمتار، كما سقط غيرها على المخيم في الرغامة خلف التلال. الملك فيصل رحمه الله (ومن أصدق وأدق حديثاً منه عن والده رحمه الله) يقول:» قوة إرادته وشجاعته التي تبرز في أحرج الموقف،وأدق الظروف، وأذكر على سبيل المثال أنه كان في موقعة تدعى ((معركة الحريق)) فدارت الدائرة أثناء القتال على جيشه،وهم الجنود بالفرار،فبرز في مقدمة الصفوف ممتطياً جواده،ومتقلداً سيفه ونادى: (( أيها الأخوان من كان يحب عبد العزيز فليتقدم،ومن كان يؤثر الراحة والعافية فليذهب إلى أهله،فوالله لن أبرح هذا المكان حتى أبلغ النصر، أو أموت))، فسرت الحماسة والحمية في نفوس الجند،وعادوا،فشدوا على أعدائهم وكان لهم الفوز. كان كثير من جند عبد العزيز يمشي حافي القدمين، فكان يخلع نعليه،ويمشي مثله حافي القدمين، فعند ما واجه ابن رشيد عند قصر ابن عقيل خاطب جنده: أنا واحد منكم ومثلكم، أنتم ماشون وأنا ماشي، أنتم حفاة وأنا والله لا أنتعل،وهذا نعلي، وهذا ذلولي فمشى أمامهم حافياً، ومشوا وراءه متحمسين، فتحقق لهم النصر. كان جلداً صبوراً، قد يقاتل طوال النهار وقسطاً من الليل،ويغير سيوفه عدة مرات في المعركة الواحدة. قضى في الفروسية عشرين عاماً، لم يذق فيها طعم الراحة؛ فهو اما محارباً، وإما مستعداً لحرب. الوعي السياسي وتمكن عبد العزيز من استيعاب ما يدور في الساحة السياسية، ووعى جيداً التنافس بين القوى العالمية على السيطرة والنفوذ،وأدرك بحسه السياسي أي القوى في صعود، وأيها في هبوط، فتعامل معها بما لا يمس استقلاله وسيادة بلاده، بل عمل على توظيفها بما يحقق آماله وطموحاته. يذكر محمد جلال كشك، صاحب كتاب (السعوديون والحل الإسلامي) أن عبد العزيز كان يتمتع بميزتين الأولى: القدرة على فهم حركة التاريخ،ومن ثم حاول أن يرتبط بالقوى الصاعدة،لا أداة لها، بل مشاركاً في انتصاراتها،ويوقع خصومه في الارتباط مع القوى المنهارة فينهارون معها، والثانية: قدرته على الإقناع فيما يخطط ويرسم له،وقد استطاع بدهائه أن يقنع تلك القوى الصاعدة أن مصلحتها في تبني خططه وطموحاته.رسم عبد العزيز سياسته على أساس بناء القوة الذاتية،وتحقيق الوحدة الإقليمية، فكان مع التاريخ، مع شعبه لم يفرط في سياسته ولا احتاج يوماً لحمايته ضد العرب، أو ضد شعبه، ولم يرفع غير راية التوحيد.