كان من المفترض أن يكون ما حصل في ليبيا يوم 17/ 2/ 2011 ثورة بيضاء تطيح بنظام القذافي، دون إراقة دماء غزيرة كما حدث حتى الآن، حيث تقول الأخبار بأن أكثر من ألف قتيل من الثوار والمدنيين وقوات القذافي قد راحت ضحية تعنت القذافي، وإصراره على عدم ترك كرسي الحكم. ومثله لا يترك كرسي الحكم بسهولة. فهو ليس بالحاكم المتحضر ذي التربية السياسية الفرنسية كما هو زين العابدين بن علي، ولا ليبيا القبلية العصبية هي تونس التي تزخر بآلاف المثقفين الحداثيين العصريين، الذين يملؤون جامعاتها، ومعاهدها، وإعلامها، وصحفها، وثقافتها العامة. ولم يكن في ليبيا مصلح وقائد سياسي كالحبيب بورقيبة، لكي يحكم ليبيا طيلة ثلاثين عاماً (1957- 1987) بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالحداثة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية. كذلك لم يكن في ليبيا قائد عسكري وسياسي شبع من الحكم، بل ضاق به، وبلغ من العمر عتياً كمبارك. كما لم يكن في ليبيا أحزاب سياسية، ولا حراك سياسي معارض كما كان عليه الحال في مصر، وما زال. وخلت ليبيا من حركات "الإسلام السياسي" الخطيرة والطامعة بالحكم إلى حد الشبق السياسي المفضوح كحركة الإخوان المسلمين، التي لعبت دوراً خفياً، في مصر، أكثر مما هو مكشوف لذوي النظر القصير، والباحثين عن نتائج سريعة لقرع الأبواب، وظهور الجواب. -2- لأول مرة، نستطيع تحميل مسؤولية تحويل ثورة 17/ 2/ 2011 الليبية من ثورة بيضاء، كان بوسعها أن تكون على غرار الثورة التونسية 18/ 12/ 2010، أو الثورة المصرية 25/ 1/ 2011 إلى حرب دموية، ربما تمتد إلى شهور أخرى أو سنوات، على غرار ما جرى ويجري الآن في الصومال إلى القوى الغربية، وإلى الأممالمتحدة، ومجلس الأمن، الذي أصدر قراره 1973 متأخراً. وكان على الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا أن تدرك بعض الحقائق التالية عن نظام القدافي في ليبيا: 1- القذافي وعائلته، حكموا ليبيا وما زالوا يحكمونها لأكثر من أربعين عاماً، استطاعوا خلالها أن يثبِّتوا أركان حكمهم البوليسي والقبلي تثبيتاً قوياً، بحيث أصبح من العسير على أية قوى شعبية أو عسكرية داخلية أخرى اقتلاعهم من ليبيا. وقالت ويكيليكس في إحدى وثائقها المنشورة في كافة أنحاء العالم إن "أبناء القذافي يعتبرون أن مؤسسة النفط الليبية بنك شخصي لهم". 2- تُعتبر ليبيا من الدول العربية التي تنتج يومياً حوالي 1.6 مليون برميل من البترول الخام الخفيف المطلوب عالمياً. وهي الدولة الثامنة في العالم في احتياطي النفط، مع 44.300 مليون برميل، وهي الثامنة عشرة في الإنتاج. وخلال أربعين سنة مضت، استطاع القذافي وعائلته أن يكوِّنوا ثروة شخصية ضخمة في غياب الرقابة الإدارية، وفي غياب الرقابة المحاسبية على خلط المال العام بالمال الخاص. 3- استطاع نظام القذافي أن يشتري سكوت الغرب وإعلامه بعد عام 2003، وبعد ما شاهد ما جرى لحكم الطاغية صدام حسين. فتخلَّى عن عدائه للغرب، ودفع مليارات الدولارات تكفيراً عن عملياته الإرهابية، في حادثة طائرة "لوكربي"، ونسف الملهى الليلي الألماني، وغيرهما من العمليات الإرهابية. كما أقدم على غلق كافة النشاطات الليبية النووية، وشحن معداتها إلى أمريكا، وأعلن براءته من كل ما يُعكِّر صفو الغرب، ضماناً لاستمراره في الحكم. وزاد على ذلك، بأن ضخَّ في الاقتصاد الغربي أموالاً طائلة على حساب التنمية الليبية، وعلى حساب رفاهية الشعب الليبي ورفع مستواه المعيشي المتدني. وقال لنا المحلل السياسي الإسباني ميغيل مورا في مقاله المهم والمعرفي (القذافي الطاغية الذي اشترى الغرب!) إن الطاغية الذي كان ينفث التهديدات أمام الكاميرا ضد الغرب، هو نفسه اللاعب الرئيسي في المشهد المالي والاقتصادي العالمي. فالقذافي شريك من العيار الثقيل للكثير من الشركات والدول في الغرب. فإيطاليا هي شريكه التجاري الأول، وألمانيا هي الشريك الثاني. وكانت إيطاليا هي المكان الذي انتشر فيه الخوف والقلق إثر اندلاع الأحداث الأخيرة في ليبيا. وربما إيطاليا البلد الذي كان أكثر تورطاً بالعقود والوعود مع نظام القذافي. فقد زار رئيس الوزراء سيلفيو بيرلسكوني ليبيا ثماني مرات، في العامين الأخيرين. وكان القذافي قد نصب خيمته في إيطاليا في أربع مناسبات. ووضع القذافي أمام الجميع الثروة الشخصية والحكومية المتكدسة في السنوات الأخيرة مع عائدات النفط، والتي تقدر بنحو 50.000 مليون يورو. وأصبحت إيطاليا إحدى أهم الوجهات المالية المفضلة للقذافي. فبعد عامين من الصداقة، أصبح القذافي خامس أكبر مستثمر شخصي من حيث حجم التداول في بورصة ميلانو. وفي بريطانيا، استثمر القذافي في قطاعات كالتعليم، والإعلام، وكرة القدم، والعقارات. وفي إسبانيا، تم توقيع اتفاقيات لبيع أسلحة لليبيا في عام 2007 بقيمة 1500 مليون يورو. وكان من المتوقع الانتهاء من توقيع عقود تجارية لما مجموعه 12300 مليون يورو، وفقاً لبرقية سرية كشف عنها "موقع ويكيليكس" صدرت عن السفير الأمريكي في مدريد. وقال محمد المبارك، المدير المسؤول عن مجلس الإسكان والبنية التحتية في ليبيا، إن نصف الاستثمارات المقررة بنحو 62.000 مليون دينار ليبي (47.000 مليون دولار) المخصصة لمشاريع إعمارية لعام 2008 كانت قد مُنحت بالفعل وبشكل رئيسي لشركات أجنبية، وعلى رأسها شركات أمريكية. وأضاف أنه ينتظر أن ترتفع الاستثمارات إلى 100.000 مليون دينار ليبي في السنوات المقبلة. -3- ليبيا لا تزرع الجزر، ولا تنتج البصل. ومن هنا، كان الجواب على سؤال معظمنا: لماذا كل هذا التهاون من قوات "حلف الناتو" مع القذافي، طيلة شهرين مضيا، دون حسم لمعركة القذافي مع الثوار الليبيين، حيث إن المعركة كما تبدو اليوم، هي معركة بين عسكريين مسلحين ومدربين تدريباً جيداً، وبين شباب يمسكون بسلاح خفيف لأول مرة، ولا يجيدون استخدامه في معظم الأحيان، ويذهب في وسطهم مواطنون يموتون ويصابون بالمئات، ويتم تدمير وحرق منشآت مختلفة. في حين أن أمريكا استطاعت أن تقبض على إيمانويل نورييغا رئيس بنما، وتقتاده إلى أمريكا، وتسجنه في 1990. واستطاعت فرنساوالأممالمتحدة في الأمس أن تقبض على الرئيس غباغبو في ساحل العاج وتعزله، بعد أن رفض الاعتراف بنجاح بوتارا في الانتخابات. وهذا التهاون الواضح في حسم المعركة بين ليبيا والثوار على نظام القذافي القمعي حيث لا توازن في القوى على الإطلاق هو الذي أمدَّ بفترة القتال المستعر هناك، وأوقع مئات الضحايا، وحوّل الثورة البيضاء إلى حرب دموية مدمرة، ربما تستمر إلى عدة أشهر أخرى، ما لم يتم حسم عسكري دولي قوي، كما تمَّ في الكويت 1991، وقبلها في البوسنة والهرسك. نقلا عن الوطن السعودية