من المحقق أن التطورات التاريخية والاجتماعية ليست كالتطورات التي تحدث للأفراد، فهي بحاجة إلى تفحص كبير ونظر دقيق، كما أنها بحاجة وهنا المفارقة إلى أن ينتهي التطور التاريخي أو الحدث الاجتماعي لكي نفهمه. بمعنى أن ما يحدث من انتفاضة شعبية في بعض البلدان العربية هو حدث اجتماعي لا فردي، ولن يتسنى لنا فهمه إلا بعد انقضائه بل ومرور وقت طويل على حدوثه، فها هنا يمكن للمؤرخ والباحث أن يجد أمامه متسعا من الوقت للتأمل والتفكير والتحليل، كما أن الملفات ستكون متاحة له ولغيره من الباحثين. وقد ذكرت في مقال سابق أن الحدث التاريخي الأقرب عهدا هو الأكثر صعوبة على الفهم، على عكس الحدث التاريخي الأبعد. ولكن هناك ما يستثير الباحث التاريخي والاجتماعي الناظر في الشؤون العربية؛ وهو مفهوم الثقافة. قبل الحديث عن هذا المفهوم أود أن أذكر أن الانتفاضات الشعبية العربية التي تحدث اليوم هي بالنسبة للمؤرخ والباحث شيء جديد ويكاد يكون مختلفا عن ثورات شعبية رأيناها في نواح مختلفة من العالم. وحسبنا أن نشير إلى أن الأداة المثلى التي تم استخدامها في تلك الثورات ألا وهي «الإنترنت»، هذه الأداة التي تم التعامل معها بوصفها وسيلة للترفيه والتواصل الساذج أثبتت أنها أداة خطرة، فهي صوت الناس اليوم. وقديما حدث مع التلفاز ما حدث مع الإنترنت، حيث كان يراد منه أن يكون وسيلة للترفيه والهزل ولكنه ما لبث أن صار من أهم مقومات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. والآن فلنعد إلى مفهوم الثقافة. بادئ بدء علي أن أوضح أن الانتفاضة الشعبية اليوم لم تكن بسبب من التعبئة الأيديولوجية أو التحفيز الديني والقومي كما كان الحال في سالف الأوان، بل هي ثورة غير مقصودة وغير مخطط لها. وبلغة فلسفة التاريخ نقول إن الثقافة العربية، اليوم، تثور على نفسها. ما معنى هذا الكلام؟، ببساطة أقول إن الديكتاتور الذي ثار عليه الناس، والناس الذين ثاروا على الديكتاتور هم محصلة لثقافة عربية واحدة وشاملة. بعبارة أوضح: لقد كان من الممكن أن يكون أحد الأفراد الذين ثاروا على الطاغية ديكتاتورا جاهزا. إن هناك تعاطفا ضمنيا من قبل الشعب مع الرئيس الحاكم الذي ثاروا عليه, فالمصريون يتعاطفون مع رئيسهم اليوم بعد أن تنحى وصار في عداد «أعزاء القوم»، لأنهم يعرفون أنه ليس هو بحد ذاته المشكلة بوصفه فردا مصريا، ولكنه كان رمزا من ضمن باقة الرموز الذين يمثلون الثقافة ذاتها!، حتى القذافي الذي جعل من نفسه «إلها» ليس شيئا غريبا على ثقافة الليبيين أو العرب؛ لذا لن نعدم من يتعاطف معه ويرفضه في آن معا؛ من ليبيين أو سعوديين أو عرب. لقد كان في الإمكان أن يكون أي ليبي هو ذاته معمر القذافي. وتفسير الإشكالية كلها يكمن في الثقافة العربية ذاتها؛ إن تاريخها المجيد وغير المجيد مليء بنماذج معتادة، ومن أجل هذا نقول بصريح العبارة إن الثقافة العربية اليوم لا تثور على رؤسائها بل على نفسها. وقد يكون من الجائز عندها أن نعتبر الزعماء مجرد ضحايا أو أكباش فداء لهذه الثورة الذاتية العربية؛ الغريبة على التاريخ العالمي وعلى فلسفته وفلاسفته!، هل يعقل هذا؟! أيعقل أن يكون الطاغية الديكتاتور كبش فداء وضحية؟! الجواب: أجل، يعقل هذا. فالديكتاتور العربي كان ولا يزال تعبيرا عن أعمق ما في الثقافة نفسها من سمات ثقافية وحضارية مرضية، ولذا فهو ليس غريبا عنها ولا هو نبتة غريبة أو شيطانية كما يحلو للبعض أن يقول، بل هو قابع في صميمها وفي قلبها، ولكنه شيء عظيم أن نجد الثقافة العربية تطهر نفسها بنفسها وتنفي عنها الظلم والاضطهاد، حتى وإن كان الطغاة أنفسهم هم الضحايا وأكباش الفداء!!، نعم. ليس هناك ضحية للطغيان الثقافي السياسي العربي كالطاغي نفسه، فمعمر القذافي هو أشهر وأظهر ضحية في ليبيا اليوم، ولقد أشفقت عليه بعد خطابه إشفاقا هو في ذاته رأفة بالعرب وبفكرهم وشعورهم وثقافتهم، كنت متوجسا من نفسي، لماذا أشفقت على القذافي في خطابه الغاضب والحانق؟، هل أنا نصير للطغيان بدون شعور مني؟، إلا أني انتبهت، في الحقيقة، للعظة التاريخية العظيمة التي راودتني إبان محاكمة الزعيم العراقي صدام حسين الذي شعرت بالأسى عليه أيضا، وهذه العظة تنص على أن التاريخ وتطوره لا يحسب حسابا لأي فرد كان؛ زعيما أو رئيسا أو وزيرا، بل هو منوط بالكلي وبالأعم فالأعم، أما بقية الأفراد وكل ما يشعرون به من مشاعر الحزن والأسى، فهم أدوات يتوسل بها التاريخ في تطوره، كما أوضح فيلسوف التاريخ الألماني العظيم «هيجل»، الذي كان يرى أن نابليون العظيم الذي دوخ ملوك أوروبا لم يكن سوى أداة من أدوات التاريخ. ما هو المحصل النهائي لفكرة المقال؟، ببساطة أرغب في أن أقول إن من يصب مشاعر الغضب والكراهية لشخص «القائد الزعيم الديكتاتور» هو لا يفقه في فلسفة التاريخ شيئا، والفقيه فيها هو من يدرك بوضوح ودراية أن قوانين التاريخ والتطور التاريخي ليست مرتهنة في مسيرتها العظمى لمشاعر هذا أو ذاك، أو لتأييد فلان أو علان، وإذا كان هناك فرد ما يقدر على تحريك عجلة التاريخ فهو أي شيء يمكن أن نتصوره ولكنه ليس الديكتاتور!، فالديكتاتور تحديدا ليس سوى ضحية أو كبش فداء، أو هو الغناء الأخير للبجعة المحتضرة؛ كما كان هتلر الغناء الأخير للعصبية الجرمانية، وكما كان صدام حسين الغناء الأخير للعصبية العربية، وكما كان السيمفونية الأخيرة لأوهام روما العظيمة!. إن عجلة التاريخ البشري لا ترحم إلا من يفهمها بشكل علمي وفلسفي دقيق وصحيح. وأما من يتراوح هنا وهناك، ويتطوح يمنة ويسرة ويظن أنه يحسن صنعا فهو غر لا يفقه منطق التاريخ أبدا. نقلا عن عكاظ