ليس صحيحاً أن ذلك المشهد المدهش للشارع المصري يوم الجمعة الماضي استثنائي وغير مسبوق كما قيل، فقد سبقه مشاهد أعظم منه امتلأ خلالها الشارع المصري بسيول الجماهير وفاض، ولكن الفرق أن المشهد الأخير كان الشارع فيه غاضباً ثائراً، بينما المشاهد السابقة كان الشارع فيها محباً راجياً مقبلاً وحزيناً باكياً. المشاهد السابقة كان الشارع فيها هاتفاً ومعبراً عن حبه الكبير وتبجيله لزعيم الثورة جمال عبدالناصر، وراجياً منه العدول عن الاستقالة الشهيرة بعد هزيمة 67 وحزيناً باكياً بعد وفاته، أما مشهد الشارع المصري الحالي فقد كان غاضباً من ابن الثورة نفسها ووريثها وحارس (مكتسباتها وإنجازاتها) ومتعهد (مسيرتها) الرئيس حسني مبارك، مطالباً إياه بالرحيل. مشهد الشارع المصري يوم الجمعة الماضي ذكّرني بكتاب الأديب المصري الكبير الراحل توفيق الحكيم (عودة الوعي) الذي كتبه بعد عشرين عاماً تقريباً من قيام الثورة، أي بعد وفاة عبدالناصر بعامين، فالشارع المصري الحالي في مشهده اللافت يبدو وكأن موقفه من ثورة يوليو وقادتها مثل موقف توفيق الحكيم من قائد الثورة، فالحكيم انتقد عبد الناصر بشدة كما فعلت الجماهير مع مبارك ولو أن عبدالناصر كان مازال حياً حين ألّف كتابه لطالبه ربما بالرحيل كما يفهم مما قاله في الكتاب، أي تماماً كما فعل الشارع حين طالب مبارك بالرحيل. لقد رأيت المشهدين في الشارع المصري.. مشهد الحب والتبجيل لعبدالناصر والمشهد المعاكس لمبارك، وبصراحة المشهدان لافتان جداً لكل متأمل، فلم يحب شارع (زعيمه) مثلما أحب الشارع المصري عبدالناصر، ولم يغضب شارع من (زعيمه) مثلما غضب الشارع المصري من (زعيمه) مبارك (كما يبدو من المشهد ومما يرد في الإعلام خلال الأشهر والسنوات القليلة الماضية) وهذا أمر لافت.. فعبدالناصر كان قائد الثورة وحسني مبارك كان ابنها ووارثها وحارس (إنجازاتها) ومتعهد مسيرتها، فلماذا كل ذلك الحب والتقدير والتبجيل لعبدالناصر وذلك الحزن الكبير على رحيله، وكل ذلك الغضب من مبارك والمطالبة برحيله..؟؟ هل عبدالناصر هو الذي قاد للانتصارات والثاني قاد للهزائم؟ هل الأول أهدى واحة الديموقراطية والثاني جرَّع هذا الشارع مرارة الدكتاتورية؟ هل الأول طور الاقتصاد ورفعه إلى عنان السماء وحافظ على احتياطيات البلد من الذهب والعملات الصعبة والثاني أهدر كل ذلك وخسف بالاقتصاد المصري إلى أعمق أعماق الأرض..؟ هنا أعود لكتاب توفيق الحكيم (عودة الوعي) فتوفيق الحكيم يقول ما معناه إن عبدالناصر قد خدّره بمعسول الكلام وبالشعارات الرنانة وباستثارة المشاعر والعواطف الوطنية والقومية، وإن ذلك كله جعله مغيبا عن الوعي يتبع عبدالناصر في مسيرته دون تفكر ويشيد به بشكل لا شعوري، وبعد وفاته أي (عبدالناصر) تخلص (أي الحكيم) من سطوته الطاغية وعاد له الوعي، مثل المنوَّم مغناطيسياً حين يتحرر من سطوة التنويم، فهل الشارع المصري مماثل في موقفه يوم الجمعة لموقف توفيق الحكيم، أي أنه عاد له وعيه ولكن ليس بعد عشرين عاماً من الثورة كما حصل للحكيم ولكن بعد ستين عاماً عانى خلالها هذا الشارع من المآسي الشيء الكثير..؟ أعرف أن الكثيرين لن يوافقوا على تلك المقارنة وسيقولون إن الفرق بين عبدالناصر ومبارك مثل الفرق بين الأرض والسماء، وسيكون لديهم ألف تبرير وألف حجة وبالتأكيد فتبريراتهم وحججهم أحترمها وأقدرها، ولكن أليس عبدالناصر هو من اختار السادات، وأليس السادات هو من اختار مبارك وأليست ثورة يوليو بهذا مثل المسبحة خرزتها الأولى الكبيرة عبدالناصر وخرزتها الأخيرة مبارك ولو انفرط عقد المسبحة فهذا يعني انفراط عقد ثورة يوليو..؟ بل دعونا من هذا وتعالوا نحتكم للمعايير الأساسية التي لا يختلف عليها اثنان وهي معايير الديموقراطية والدكتاتورية.. هل كان عبدالناصر أكثر ديموقراطية أم أكثر دكتاتورية..؟؟ ثم لماذا شاهدنا الشارع المصري ينادي بتغيير النظام وليس فقط تغيير الأشخاص في حين أن هذا النظام هو نظام ثورة يوليو نفسه..؟ الشارع المصري يوم الجمعة ويوم السبت وأمس الأحد يطالب بالديموقراطية الحقة.. وينادي بسقوط التسلط وحكم الفرد، بل الأهم من كل هذا أنه ينادي بسقوط الاحتيال على الديموقراطية باستنساخها بطريقة زائفة.. وثورة يوليو لم تكن تفكر حتى في الديموقراطية ولا (تعبّرها).. فماذا يعني بعد كل هذا ما حدث ويحدث في الشارع المصري؟ ألا يعني أن هذا الشارع مثل أديبه وكاتبه الكبير توفيق الحكيم عاد له الوعي وعبّر عن رأيه الحقيقي في ثورة يوليو ولكن بعد 60 عاماً من قيامها..؟؟ وألا يعني ذلك خسارة هذه الستين عاماً..؟ وإذا كان هذا صحيحاً أفلا يعبر هذا عن ضياع الشارع المصري ستين عاماً كان خلالها تائهاً في طرق خاطئة ليست فقط لا تقترب من الهدف بل تبتعد عنه... ثم بعد كل ذلك يكتشف هذا الشارع الضياع..؟ يا للخسارة الضخمة.. ولكن دائماً هكذا تكون نتائج الديكتاتورية! نقلا عن الوطن السعودية