اختتم في جدة يوم الأربعاء 23-01- 1432 ه لقاء الخطاب الثالث حول القبلية والمناطقية. ونحمد الله على هطول الأمطار الغزيرة التي هبطت على جدة صبيحة ذلك اليوم لتأثيرها الإيجابي في تبريد لهجة الجدل والاعتراضات التي وصلت حد الإسفاف واسترجاع المفردات السوقية المتداولة في هذا الاتجاه. قبل الحوار كان لا بد من تحديد مفهوم العنصرية بمختلف أشكالها العائلية والقبلية والمناطقية، واستصدار حزمة من القوانين والتشريعات التي تجرمها وتحدد العقوبات والتعويضات المترتبة عليها حتى يعلم كل من تسول نفسه بالتعالي على الآخرين أو حرمانهم من حقوقهم ما يمكنهم فعله لمحاسبته ومقاضاته وفضح سلوكياته غير السوية. ولعل الغرب الذي نتهمه بكل ما قال مالك في الخمر قد حسم مثل هذه القضايا منذ أمد بعيد فأصدر قوانين لحماية الأقليات العرقية والدينية وبعض الفئات الاجتماعية وحتى الشقراوات اللاتي كن عرضة للسخرية والتنكيت في وقت ما، أعطاهن القانون الحق في مقاضاة من يتبجح عليهن بمثل هذه النكات ومعاقبته وتغريمه. وتأتي أهمية الجانب الحقوقي في القضية من منطلق أن بعض القبائل وسكان بعض المناطق أصبحوا عرضة للسخرية والنكات البذيئة لمجرد انتمائهم إلى تلك القبائل أو المناطق. فأصبح من الضروري إخراس تلك الأفواه (البخراء) التي تتفنن في اختراع النكات وترويجها للحط من قدر فئات اجتماعية معينة في محاولة لوضعها في صورة نمطية تمتهن حقوقها الإنسانية والاجتماعية. أما بالنسبة لمثل هذا النوع من الحوار فكنت أتمنى أن يعقد في المدارس بمختلف مستوياتها بين الطلاب والمعلمين الذين يمثلون كافة شرائح المجتمع بدلاً من لملمة وتجميع أشخاص لا يمثلون سوى أنفسهم ليعطى كل واحد منهم عدة دقائق يقرأ خلالها الدرس الذي حضره على رفاقه. فالمدارس هي التي تعاني من وجود أطفال أبرياء يسألون بعضهم البعض منذ أول يوم في العام الدراسي «أنت وش تعود» أو «إنتا من فين» وبناء على الإجابة تعقد التحالفات والصداقات وتختار المجاورة في مقاعد الدرس بل تقدم طلبات النقل للإدارة من فصل إلى فصل بناء على أغلبية الفئة الاجتماعية في كل فصل. والأسوأ من هذا إذا ما ابتلي الطلاب بمعلمين ممن يقرأون قوائم الأسماء بطريقة (ونعم) فإذا ما مر باسم طالب من جماعته أو من حارته أو من قريته اتبع القراءة بالتنعيم، أما الآخرون فيصمت بعد قراءة أسمائهم ليظل المنعم به مزهوا منتفشاً كطاووس بين زملائه بهذه الميزة التي أعطيت له من المعلم دون أن يفهم معناها أو يعرف أبعادها فكل ما يهم التلميذ سواء كان صغيراً أو كبيراً أنه بهذا الوصف من المعلم اكتسب ميزة ستبقى معه طالما بقي هذا المعلم في المدرسة وستنعكس بالتأكيد على تحصيله الدراسي وتقييمه وحتى على مخالفاته لوجود من يسانده ويحميه ويخفف من وطأة أخطائه. ولعل هذا التوجه انعكس على الإخوة العرب المقيمين في البلاد فتجد الطالب العربي الذي يدرس في مدرسة جل معلميها من جنسيته يحظى بمعاملة مميزة ويحصل على كافة علامات أعمال السنة كاملة غير منقوصة حتى أصبح الطلاب من جنسيات عربية معينة يحتلون المراتب الأولى في كافة مراحل التعليم وعندما يرجعون إلى بلادهم أو يجرون اختبارات القياس لدخول الجامعات داخل المملكة يواجهون صعوبات كبيرة في اجتيازها. ومن المدارس يمكن التمدد بمثل هذا النوع من الحوار الاجتماعي المثمر للأندية الرياضية والاجتماعية والثقافية والأدبية حتى يصبح مجرد النطق بألفاظ عنصرية يراد من ورائها الحط من قيمة الآخرين لأي سبب من الأسباب عيبا ومنقصة في حق الشخص الذي تصدر منه. ولمن يتساءل لماذا لم أقترح بدء الحوار من المنزل؟ أقول بكل بساطة لأنني أسعى «للتربية العكسية» فالمنزل فيه أمهات وآباء وأقارب من أمثالي وأمثالكم من البالغين – لا أقول الراشدين – لأن النمو الفكري يتفاوت بحسب التنشئة ولا أظن أن محاورة البالغ الذي يعتقد بأنه أرفع من الآخرين ستكون مجدية لأنه يعول على مثل هذا الاعتقاد كثيراً ويتخذه منهجاً لحياته. وبالتالي حينما تحاوره فكأنما أنت تدعوه إلى تغيير دينه. ولذلك لنبدأ بأبنائه وبناته في المدرسة والنادي والشارع حتى يعرف مثل هذا مقامه الحقيقي في المجتمع ويعرف أن أحداً لن يصغي إلى تفاهاته بما في ذلك أبناؤه وأهل بيته. ويبقى بعد ذلك دور وزارة الإعلام في التوعية بهذه القضية والذي أرى أن يبدأ بتتبع حقيقة القنوات الفضائية القبلية والمناطقية التي تبث غثاءها ليل نهار على القمرين المصري والعربي وإصدار تنظيم دقيق لمحتواهما. وأنا هنا لا أدعو إلى الإغلاق فكيف ندعو للحوار ونصادر ثقافات بعضنا البعض فالتنوع الإيجابي المثمر هو في حد ذاته هدف أسمى للحوار. ولكن التنادي القبلي الذي يتناثر في الهواء يجب أن يتوقف فوراً فهو منتن حسب وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لدعوى الجاهلية. ولكن لماذا لم يبادر القائمون على مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني إلى نقل مثل هذا الحوار للمؤسسات الاجتماعية التي ذكرت وفي مقدمتها المدارس؟ المركز معذور فقد صدر الأمر الملكي الكريم بإنشائه بتاريخ 24/5/1424 ه، ولكنه مازال منهمكاً – حسب معلومات موقعه الإلكتروني – حتى الآن أي بعد 7 سنوات من إنشائه في تشكيل اللجان المختصة وتشكيل الأطر التنظيمية والإدارية اللازمة. ولذلك لا أظن أن لديه القدرة والإمكانيات الكافية لإجراء حواراته بطرق أكثر إبداعية وتقدما من حوارات القاعات المغلقة. [email protected] نقلا عن عكاظ