هناك جملة شهيرة لأحد المفكرين يقول فيها: «علاج مساوئ الحرية يكمن في زيادة جرعة الحرية»، والمعروف أن كلمة الحرية هي من أعصى وأعسر الكلمات على التعريف والإحاطة بمضامينها النظرية وتطبيقاتها العملية، ولكن بنفس الوقت فإن هذا الأمر لا يعني عقم هذا المفهوم (مفهوم الحرية)، بل يعني ثراءه واتساع نطاقه وكليته، وامتيازه على المفاهيم الساذجة والبدائية التي تخضع بصورة تلقائية للتحديد والتعريف. وعندما نريد تطبيق الحرية على مستوى الجماعات -وليس فقط الأفراد- فإننا مباشرة نلفي أنفسنا وقد وضعنا أقدامنا على الأرض الخصبة لمفهوم الديمقراطية، هذا المفهوم الذي تشكل وتكون منذ آلاف السنين، وخصوصًا في أرض اليونان، وقوانين صولون وبرقليس، وما تلاها من تطورات في القوانين الرومانية، والشورى الإسلامية وصولاً إلى الديمقراطية الغربية الحديثة (الديمقراطية النيابية). فالديمقراطية هي الحرية: ولكنها حرية الجماعات، لا حرية الأفراد (الوجودية)، ولا حرية التجار (الرأسمالية)، ولا حرية الشخص (الليبرالية). والدعوة للديمقراطية ليست وليدة اليوم، كما أنها ليست اختراعًا «بوشيًّا» نسبة لجورج بوش الذي أراد فرض ديمقراطيته بالقوة العسكرية، وإنما هي مطالبة نخب مثقفة وواعية أدركت مدى حاجة المجتمعات العربية للديمقراطية وباتت تتبنى الطرح الديمقراطي. أهم عوائق الديمقراطية هي حالة اللاديمقراطية في ذاتها، فالديمقراطية تتلازم مع الانفتاح السياسي والاجتماعي، وإعطاء الجماعات حقوقها الدستورية والقانونية، مع ما يترافق مع هذه الحقوق من ممارسات عملية وفعلية، (وليست شكلية صورية) واللاديمقراطية يمكن تلخيصها بأنها حالة تفكك المجتمع، وعدم نقاش فئاته مع بعضها البعض. إن اللاديمقراطية -بوصفها عدوة الديمقراطية- تشتمل على عدة عناصر وعوامل ترسخ وجودها، منها: 1- غياب العقلية الحوارية والنقاشية، وهي أساس كل ثقافة ديمقراطية. 2- عدم وجود تداول للسلطة أكانت سلطة إدارية، أو روحية، أو ثقافية. 3- تغييب الأقليات وتهميشها، والنظر إليها على أنها نشاز على السائد، وهذا يتضمن الأقليات الاجتماعية والعرقية والطائفية. 4- إلغاء حق الإنسان في التفكير والنقاش والجدل، وبدل ذلك فرض الوصاية على رأيه وكأنه قاصر في جسد بالغ. 5- تمثيل الإنسان بأفعاله اللاإرادية فضلاً عن أفعاله الإرادية وذلك يتلخص بتمثيله بعائلته أو قبيلته أو أمواله الموروثة، أو عقيدته الراسخة عبر أجيال، وليس بأن يُمثل الإنسان بكفاءته وجهده الخاص. إن حالة اللاديمقراطية هي حالة شاملة، وتستبطن بداخلها عناصر كثيرة سردت بعضًا منها في الأعلى، ويمكن فتح الباب أمام عناصر كثيرة ومختلفة لا تقتصر على بضعة بنود أو شروط، بيد أن هذه اللاديمقراطية تتشبث بثقافة تقليدية ومتقادمة، هذه الثقافة هي نتيجة لتراكم عادات وأفعال وسلوكيات جمعية وفردية أفرزتها قرون منذ عصر الانحطاط وانهيار الحضارة العربية الإسلامية. إنها ثقافة استبدادية واجترارية وتقليدية تحارب كل جدّة وإبداع في الشأن العام، ولكي تتمكن عربة الديمقراطية من عبور جسر الاستبداد، فإنها لا بدّ وأن تصرع وحش البحيرة (اللا ديمقراطي) لتعبر بأمان نحو محاضن الشعوب التي تقرر مصيرها بنفسها، لا أن تعيش حياة مكرورة بذات النسخ المتطابقة مع الأصل القديم والعتيق من حياة الأسلاف. وإذا لم يتم أي انفتاح سياسي وفكري فإن الطرح الديمقراطي محكوم عليه بالموت والاغتيال، فلا يمكن أن ينفك الانسداد التاريخي ضد الديمقراطية إلا بتحويل مسار الشعوب نحو الانفتاح، وتبني ثقافة النقد والمحاسبة وتقويض الأخطاء والنكبات التي أدت للتراجع الحضاري الذي تعاني منه. ويمكن تشبيه المطالبة بالديمقراطية مع عدم المطالبة بالانفتاح الفكري والسياسي بمن يريد قلي البيضة دون أن يكسر قشرتها! فهذا المطلب عسير وصعب، لأن أدنى درجات الديمقراطية تستوجب الانفتاح الشامل أمام قبول النقد نقلا عن المدينة