ما زالت تونس ترسل «مجاهدين» إلى سورية، وإن على نحو أكثر خفراً من قبل، فالوعود التي أطلقتها الحكومة التونسية لجهة السعي إلى الحد من هذه الظاهرة، أثمرت تحولاً في شكل عملها، وأبطأت اندفاعتها، لكنها لم توقفها، وشهدت ضواحي المدن التونسية في الأشهر القليلة الفائتة، ومع تدفق «داعش» على مدن المشرق، حركة التحاق واسعة بهذه الجماعة. وبما أنه لا عائدين بعد من «الجهاد»، إلا في ما ندر، فإن السنوات المتلاحقة منذ بدء الثورة السورية، راحت تراكم «المجاهدين»، بحيث صار يمكن اليوم أن نتحدث عن نحو 5 آلاف تونسي «يُجاهدون» في سورية وفي العراق، السواد الأعظم منهم يقاتل في صفوف «داعش»، لكن أيضاً في صفوف «جبهة النصرة» و«أحرار الشام». ويبدو أن عدد القتلى من بينهم قد يصل إلى نحو ألفين. هذه الأرقام تتحدث عنها جمعيات مدنية تونسية، وتعترف السلطات بأرقام قريبة منها، لكن الأهم من هذه التقديرات، هو أنك في تونس من النادر أن تصادف شخص لا يعرف عن قريب أو جار أو زميل أو صديق «هاجر» إلى سورية. وبفعل مرور الوقت أيضاً اتضح الكثير من تفاصيل هذه الظاهرة، وصار الكلام عنها أكثر تماسكاً. وكثرة العارفين بأشخاص ذهبوا ل «الجهاد» في سورية وفي العراق وفي ليبيا تُشعرك أن الرقم أكثر من خمسة آلاف، لا سيما إذا اقترن ذلك مع حقيقة أنه من النادر أيضاً أن تكون منطقة أو مدينة أو ضاحية مستثناة من توجه شبان منها إلى «مشرق الجهاد». قد تصادف أستاذاً في كلية الفنون فيقول لك إن شقيق تلميذته قتل في سورية، وصحافياً يتحدث عن ابن عم ناطور المبنى الذي يقيم فيه، وسيدة أعمال هاجر ابنا خادمة منزلها. الجميع هنا في تونس له قصة مع «الجهاد» في سورية، حتى «أعوان الأمن» وهو الاسم الذي يُطلق على العاملين في الأجهزة الأمنية، للكثيرين منهم أشقاء وأقارب توجهوا للقتال في سورية في صفوف الجماعات التكفيرية. والفعل التراكمي للظاهرة سمح برصد مؤشرات جديدة حولها، لم يسبق أن شهدتها ظاهرة «الخروج للجهاد» في مراحلها السابقة، سواء في تونس أم في غيرها من بلاد «المجاهدين» الواسعة. المجاهدون الجدد ليسوا فقراء، أي من فئات متوسطة ومتوسطة دنيا، وهم أبناء نظام تعليم حديث وفاسد، وهم غادروا في أثناء انقلاب كبير أصاب هذا النظام، وهو الثورة ودولة ما بعد الثورة. ودولة ما بعد الثورة التي جرى الخروج في ظلها إنما مثّل هذا الخروج الكبير منها ما يشبه طرداً ضمنياً لفئات بقيت علاقتها بالثورة وما بعدها غير متبلورة. نحو 60 في المئة منهم غادروا ل «الجهاد» قبل تخرجهم من الجامعة بقليل، ولم يكونوا من المتعثرين دراسياً، لا بل إن بعضهم من المتفوقين. معظمهم من المتدينين حديثاً، وكثيرون منهم سبق تدينهم حياة صاخبة تخللها شرب خمر ومخدرات، وهم إذ أصبحوا متدينين قبل أشهر قليلة من مغادرتهم تونس ل «الجهاد»، راحوا يكثفون من تمسكهم بطقوس التدين ويُسرعون من انتقالهم فيها من طور إلى طور إلى أن كان «الجهاد» ذروتها. حصل ذلك في أشهر قليلة، بما يوحي بأن انهياراً كاملاً لعالم كانوا يعيشون فيه قبل تدينهم قد تم في هذه الفترة القصيرة.
فراغ في القيم ليسوا فقراء معدمين على نحو ما رحنا نعتقد عندما بدأت الظاهرة بالتشكل. معظمهم من أبناء المناطق الساحلية في تونس، وهي المناطق المزدهرة اقتصادياً، والمناطق التي كان نظام بن علي يعتبرها ركيزة حكمه، وقبله نظام بورقيبة، في حين أن المناطق الداخلية التي تعتبر اليوم القاعدة التي ترتكز عليها حركة النهضة الإسلامية كانت أقل مساهمة في الظاهرة. وهذا مؤشر أيضاً إلى أن ظاهرة «الجهاد في سورية» تغذت من انهيار كامل لمنظومة اقتصادية واجتماعية وتعليمية، ومن فراغ قيمي خلفه فناء النظام السابق، من دون أن يعني هذا على الإطلاق علاقة مباشرة بين «الجهاد» وبين قيم النظام السابق، إنما علاقة بين «الجهاد» وبين انهيار النظام. ف «المجاهدون» خرجوا بالدرجة الأولى من معاقل هذا النظام. هم أبناء النظام التعليمي الذي ورثه نظام بن علي عن نظام بورقيبة، وهم أيضاً أبناء موظفين حكوميين صغار أو موظفي شركات خاصة كانت ناشطة حول وظائف أرساها هذا النظام. لم يكونوا مؤمنين به، إنما كانوا يعيشون في ظله من دون أضرار كبيرة. وهم ليسوا تقليدياً أبناء عائلات نهضوية (نسبة إلى حركة النهضة)، بعضهم ينتمون إلى عائلات تجمعية (حزب بن علي)، وبعضهم من عائلات لم يسبق أن نشطت سياسياً. وهذا لا يعني على الإطلاق أن «النهضة» بريئة من ظاهرة توجههم إلى «الجهاد»، لا بل إن ثمة مؤشرات كثيرة إلى تورط الحركة الإسلامية التونسية في تسهيل خروجهم لا سيما خلال وجودها في السلطة بين العامين 2011 و2014. هذه الانطباعات السريعة، هي حصيلة قراءة بيانات شخصية ل 150 «مجاهداً» تونسياً توجهوا إلى سورية والعراق قامت بتجميعها «جمعية إنقاذ التونسيين العالقين في الخارج»، والجمعية تضم عدداً من أهالي «المجاهدين» في سورية. ويقول أمين السوسي، وهو ضابط متقاعد في الجيش التونسي غادر ابنه محمد إلى سورية وقتل هناك: «كان ابني متفوقاً في الجامعة، وغادر إلى سورية قبل تخرجه بنحو شهر، وكان شاباً كتوماً من قبل تدينه وانغماسه، وكانت علاقته بأمه قوية ومتينة». وفي كلام محمد عن نجله ثلاثة مؤشرات تتردد كثيراً في كلام أفراد عائلات «المجاهدين» في سورية عن أبنائهم. تفوق دراسي لم يُتوج بتخرج من الجامعة، وعلاقة متينة مع الأم توحي بأن هناك شبه قطيعة مع الأب، أو كأنها رد على انعدامها مع الأب، أما العنصر الثالث وهو في حالة محمد السوسي الكتمان والانطواء، فيتفاوت تبعاً للحالات بين ما هو عليه محمد وبين آخرين جاءوا إلى الجهاد من حياة صاخبة وراديكالية في خروجها عن قيم العائلة والحي، ناهيك عن آخرين منفصلين تماماً عن شعائر العائلات ومنغمسين في تفوقهم الدراسي التقني غالباً.
حياة باذخة العم حسن، وهو اسم مستعار لرجل تونسي طلب عدم ذكر اسمه لأن ابنه في السجن، قال إن ابنه توجه إلى سورية في آذار (مارس) من العام 2013 وبقي هناك نحو شهرين اتصل في نهايتهما بوالده وطلب منه شراء تذكرة عودة عبر مطار هتاي التركي، وعاد حيث تم توقيفه في المطار وسجن مدة 40 يوماً وأفرج عنه. لكن الشاب عاد وتحمس ما أن بدأت «داعش» تحقّق تقدماً في العراق وفي سورية، فعاود المحاولة، إلا أن السلطات التونسية أوقفته على الحدود الليبية مع ثلاثة من أصدقائه كانوا متوجهين إلى ليبيا ومنها إلى تركيا ثم سورية. يروي العم حسن عن ابنه عبد الرحمن عندما عاد من سورية أنه غادرها بعد أن تبددت قناعته ب «الجهاد». روى لأبيه حكايات عن أمراء في جبهة النصرة انتقلوا إلى «داعش» تشير إلى حياة باذخة يعيشها هؤلاء، في وقت كان أصدقاء ابنه السلفيين قد جمعوا ثمن بطاقات السفر من بعضهم وتوجهوا إلى سورية. عاد الشاب غير مقتنع ب «الجهاد» ثم عاد وبنى قناعته مجدداً في تونس. هو ككثيرين غيره ممن كانوا على وشك التخرج من الجامعة حيث كان يدرس علوم الكومبيوتر في الجامعة التونسية في العاصمة، وكان متفوقاً في دراسته. ويقول الوالد إن مسجداً وكومبيوتراً كانا وراء تجنيد ابنه في المرتين اللتين جنّد بهما. يُميز والد رشيد، الشاب التونسي الذي غادر منذ نحو سنتين إلى سورية وفقدت العائلة الاتصال به، بين السلفيين المسالمين الذين كانوا موجودين في تونس منذ أيام بن علي وبين السلفية التي قدمت مع «النهضة» على ما يقول. يشير إلى جارهم في منطقة دوار هيشر ويقول إنه مسالم ولا يملك كومبيوتر. وهذه إشارة إلى قناعة الأهل بأن الكومبيوتر هو ما عبث بعقول أبنائهم. ومعادلة مسجد - كومبيوتر - نهضة هي ما يبدو ثابتاً في قناعات الأهل على رغم أن أبناءهم لم يكونوا يوماً أعضاء في حركة النهضة.
الهجرة الجديدة في الأشهر الستة الأخيرة عادت ظاهرة المغادرة إلى سورية تنشط. من دوار هيشر غادرت دفعات جديدة، وقبل أيام وصلت أخبار عن مقتل بعضهم. نضال سالمي هو أحد هؤلاء القتلى، وصل الخبر إلى أهله في دوار هيشر عبر اتصال من سورية. عمره 24 سنة، ولم يكن قد مضى على وصوله إلى سورية سوى أشهر قليلة، وهو ابن خال والدة رشيد. لا تبدو الإجراءات التي اتخذتها الحكومة التونسية فعالة لجهة الحد من الظاهرة، بمقدار ما كانت مساعي لعرقلتها. فإذن الأهل لسفر الشباب إلى تركيا، وهو الشرط الذي وضعته الحكومة لمنع التوجه إلى سورية، تم الالتفاف عليه عبر التوجه إلى ليبيا أولاً ومن بعدها إلى تركيا، وعندما تم التضييق على المغادرين إلى ليبيا اعتمدت المغرب التي لا يحتاج التونسي للتوجه إليها إلى تأشيرة، ومن هناك إلى تركيا.
حاولوا وفشلوا والحال أن الإجراءات غير الصارمة التي تتّخذها الحكومة التونسية تجعل من التساؤلات التي يطرحها أهل الشبان المغادرين جديرة بالتوقف عندها. فالعدد الكبير للمغادرين ما كان يمكن أن يتراكم فيما لو كانت الإجراءات جديّة، ووزير الداخلية لطفي بن جدو الذي احتفظ بمنصبه منذ حكومة النهضة السابقة أثار في أكثر من مناسبة ضجيجاً ملتبساً حول الوظيفة التي تؤديها وزارته في هذا الملف. ففي الوقت الذي قال فيه إنه تمّ منع نحو أكثر من تسعة آلاف شاب تونسي من التوجه إلى سورية، تكشف الأشهر الأخيرة فقط أنها شهدت خروج أكثر من 600 «مجاهد». علماً أن الوزير نفسه هو من فجّر قنبلة «نكاح الجهاد» عندما صرّح في السنة الفائتة أن أكثر من 100 شابة تونسيةعدنَ من سورية بعد أن مارسن «جهاد النكاح»، لتكشف لاحقاً وزيرة شؤون المرأة في الحكومة نفسها ل «الحياة» أن هذا الكلام لا أثر له من الصحة وأن وزارتها لم تتمكن من الوصول إلى واحدة من هؤلاء اللواتي زعم الوزير أنهن عدنَ. علماً أن ذلك فُسر كمحاولة لإلقاء المزيد من الشكوك حول الظاهرة، وتفخيخها بعناصر غير واقعية تجعل من أي محاولة لتفسيرها أمراً غير منطقي وغير قابل للتصديق. ليست الأحياء ولا الجامعات ولا المساجد وحدها من يتولى نقل الشبان التونسيين من مستويات وأنماط عيشهم السابقة على تدينهم وتسلّفهم إلى نمط جديد من التديّن، إنما الكومبيوتر أيضاً. هذا ما لا يكفّ الأهل عن ترديده أمام من يسألهم. هم متوحّدون مع أجهزتهم، يسهرون في الليل وينامون في النهار، على ما قالت والدة رشيد. وهم كفّوا عن مشاركة والداتهم الحكايات حول حياتهم من مدة ليست طويلة. أشهر قليلة فقط ويصبحون «مجاهدين» غرباء في عائلاتهم. ويقول أحمد الذي تمكّن من الدخول على كومبيوتر شقيقه بعد مغادرة الأخير إلى سورية أن طبخة «الجهاد» تنضج في عقل الشاب عندما يبدأ بالاعتراف لشيخه بذنوبه السابقة، وهي ذنوب تدور في الغالب حول مواعدة فتاة أو شرب الخمر أو ارتياد حانة. وعندها يبدأ الشيخ بتضخيم الذنوب وجعلها معصيات كبرى، عندها يُصبح على الشاب أن يعمل المزيد ليكفّر عنها، وذروة التكفير عن الذنوب هو «الجهاد في سورية». هذا ما اكتشفه أحمد على كومبيوتر شقيقه رشيد. لا تحتمل الجامعات هذه العلاقة الثنائية بين شيخ ومريد، والمساجد مفتوحة للمراقبة الأمنية، لا سيما بعد الضغوط الدوليّة التي تعرضتْ لها تونس بعد أن حلّت أولى في الدول المصدّرة للمجاهدين. العلاقة الثنائية المباشرة بين الشيخ والشبان هي ما يجدي أكثر على صعيد التجنيد. علماً أن الشيخ تونسي وقد توصّل أحمد إلى معرفته، واكتشف أن له ابناً من عمر شقيقه رشيد لم يرسله إلى «الجهاد».
* أفواج جديدة توجهت إلى بلاد داعش وملامح مختلفة لسير خروجها.. _ يتبع تقرير اخر ... * حازم الأمين