تُصدِر المفوضية الأوروبية تقريراً يُسمى «تقرير التقدم» خاصاً بتركيا ودول أخرى ترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. التقرير نصف السنوي الذي صدر الشهر الماضي لا يختلف كثيراً عن التقارير السابقة ومنذ عدة سنوات. تركيا تتقدم على طريق الإصلاح تارة ببطء، وتارة بسرعة، وتارة من دون أي خطوة مهمة. التقرير الأخير أشار إلى بعض التقدم بعد رزمة الإصلاحات التي أعلنها رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في نهاية الشهر قبل الماضي. ولكنه عرض أيضاً للعناوين التي لم تبادر تركيا إلى التغيير فيها، ومن ذلك المسألة الكردية وبعض مطالب المسيحيين، ومنها إعادة فتح مدرسة الرهبان في هايبلي. كما دعا الحكومة إلى التعامل بعنف أقل مع المحتجين الذين خرجوا في نهاية الربيع الماضي في ساحة تقسيم وحديقة غيزي. لا بل أثنى التقرير على موقف رئيس الجمهورية عبدالله غول من أحداث تقسيم وانتقد موقف أردوغان منها. في نهاية التقرير وضع مسؤول المفوضية عن شؤون توسيع الاتحاد الأوروبي ستيفان فول، الكرة في الملعب التركي من أجل تحقيق مزيد من التقدم في مفاوضات العضوية. قبل أشهر أعلن مسؤول الملف الأوروبي في الحكومة التركية أن تركيا يمكن ألا تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي، وربما في هذه العبارة مفتاح العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي. المحاولات التركية للانضمام لأوروبا بدأت عام 1963، ويتضح أنها مسيرة لن تنتهي لا بعد سنة ولا بعد عشر سنوات، وهي علاقة جدلية يحكمها العالمان الإسلامي والمسيحي.. تقدمت تركيا واليونان معاً في عام 1959 لعضوية المجموعة الأوروبية. في بداية الثمانينيات انضمت اليونان بعد إنهاء الحكم العسكري فيها.. وبعد مضي ثلاثين عاماً من انضمام اليونان لاتزال تركيا تنتظر ولا تجد استجابة لها. المحاولات التركية المستميتة للانضمام للاتحاد الأوروبي من أجل قبولها عضواً في المنظومة الأوروبية لم تشفع لها من قِبل دول الاتحاد.. فتركيا لم تكن يوماً علمانية بالقدر الذي تتطلبه العلمانية، وتركيا الديمقراطية لم تكن على مستوى المعايير التي تضعها في مصاف الدول الديمقراطية، وتركيا الباحثة عن عضوية أوروبية لاتزال تعتقد بالقول والممارسة أن دورها ومستقبلها هو في الجغرافية الإسلامية، حيث يمكن لها أن تكون زعيمة وقائدة في العالم الإسلامي. الحالة التركية حالة بلا هوية، فلم تضم تركيا للاتحاد الأوروبي ولم تبرز كدولة قيادية في العالم الإسلامي، وهو ما يضعها في وضع جيوسياسي غير مستقر.. حيث وقعت تركيا في مأزقين؛ الأول في مقاربتها دورها الإقليمي والدولي، فنظرت إلى الاتحاد الأوروبي على أنه مجرد أداة في الحسابات والصراعات السياسية في الداخل التركي، ولم تقُم بإصلاحات جذرية تجعلها في مصاف الدول المتقدمة، والمأزق الثاني عندما حاولت حكومة العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان أن تتزعم المنطقة العربية والإسلامية ففشلت في منهجيتها وأسلوبها وتحولت إلى طرف في استقطاب حاد بعيد عن صورة البلد النموذج الذي حقق مكاسب من المعايير الأوروبية، وبلد معزول عن محيطه العربي والإسلامي. وما زاد الطين بلّة أن الأحداث الأخيرة التي جرت في سوريا غيّرت كل مخططات الحكومة التركية التي أرادت أن تستثمر الحدث السوري، وكأن مقولة وزير خارجيتها أحمد أوغلو «تصفير المشكلات» قد انقلبت عليه تماماً.. وأصبحت تركيا متورطة أو طرفاً أساساً في أحداث سوريا. إن مشكلة تركيا أنها لم تحسم خياراتها الحضارية ولا هويتها منذ أتاتورك حتى أردوغان، وهذا المأزق التركي سيستمر مع إصرار النخب المثقفة من الليبراليين والإسلاميين.. فأوروبا لا ترغب فيهم، وكذلك خسروا تسييد دول العالم العربي والإسلامي لها.