عندما فكرت في كتابة هذا المقال، تذكرت قصة المازني التي تحدث فيها عن الحلاق الذي كان يتحدث بحماسة عالية جدا عن أجواء الحرب التي دارت بين دول المحور والحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، وأخذ يرسم خارطة المعركة على رأس الزبون، حتى ضج هذا الأخير، فأخذ يلعن السياسة والسياسيين والروس واليابان والناس أجمعين. بناء عليه، قد أصبح من الضروري اليوم التعرف على علاقة عموم التونسيين بالسياسة وذلك بعد أن تراجعت الحواجز والعوائق التي كانت نبعدهم عن الفعل السياسي. قبل الاستقلال استندت هذه العلاقة على تفويض غير إرادي للعائلة المالكة، ولم يخرج المواطنون على ذلك إلا في حالات نادرة حين اشتدت وطأة الظلم وتراكمت الجباية بطريقة لا تطاق. حدث ذلك بالخصوص مع ثورة علي بن غذاهم الذي قتل غدرا وذهب ضحية المناورة والخبث السياسي. لقد حاولت السلطة يومها أن تجعل منه ومن رجاله درسا لعموم التونسيين حتى لا يقتربوا من المجال المحرم الذي يتمثل في التمرد على الحكم والحاكم. لقد بدأ التونسيون يدخلون عالم السياسة من بابه الكبير عندما أخذوا يكتسبون وعيهم الوطني وهويتهم الجماعية كلما احتد التناقض بينهم وبين المستعمر الفرنسي، وذلك بفضل الدور الذي قامت به النخب الوطنية والإصلاحية، ثم تطور ذلك مع تأسيس الأحزاب، وخاصة الحزب الدستوري الذي نجح بورقيبة والمجموعة التي دعمته في تحويل ذلك إلى أداة مقاومة حقيقية ومؤثرة في موازين القوى. هنا أصبح التونسي يعتقد بأن السياسة عمل شريف وواجب ووسيلة لتحرير البلاد من هيمنة الأجنبي. بعد الاستقلال، نجح بورقيبة في إبعاد خصومه والانفراد بالقيادة، ولم يقبل فكرة أن توفير الحد الأدنى من الحريات ووجود معارضة هما شرطان لتنمية الوعي السياسي، مما أدى إلى أحادية مقيتة حولته من قائد إلى كائن فوق النقد وأب ثقيل على شعبه، فترتب عن ذلك وقوع سلسلة من الأزمات أدت في الأخير إلى توفير مناخ ملائم لظهور دكتاتور نما في الخفاء وفي أحضان الفراغ الذي خلقه ضعف الدولة. مع ذلك تطورت علاقة التونسيين بالسياسة لكنها في عهد بورقيبة بقيت مرتبطة بوجود الزعيم ودوره المحوري في إدارة الشأن العام. في فترة بن علي ماتت السياسة في البلاد نتيجة نزعته القمعية وإرسائه لحكم بوليسي كاد أن يكون شاملا. لقد أصبح التفكير في السياسة جريمة قد تكلف مرتكبها كثيرا من حياته وربما تقوض تماماً أحلامه في بناء حياة هادئة. ولهذا قرر التونسيون في تلك السنوات الكالحة القيام بهجرة المجال السياسي بشكل جماعي. بناء عليه عندما اندلعت الثورة حصل انقلاب واسع حيث انتقل اهتمام الرأي العام من كرة القدم إلى التركيز على السياسة إلى درجة التخمة، وذلك في فترة وجيزة. الجوع الشديد كاد أن يحول التونسيين جميعهم إلى كائنات سياسية. فمن أهم المكاسب التي تحققت في هذه المرحلة هو صعود المواطنين على الركح من خلال تجمعاتهم وأصواتهم العالية والمطالبة بالحقوق. لكن بعد أن احتكرت الأحزاب المشهد العام، وأخذت تختزل عملية الانتقال داخل مربع ضيق بين أحزاب تحكم وأخرى تعارض، دون أن يؤدي ذلك إلى تقدم فعلي أو تحقيق تراكم نوعي في المكتسبات، بل على العكس من ذلك شعر المواطنون بأن وضعهم الجماعي أصبح مهددا، أخذت مواقفهم تميل نحو نقد هذه النخب المتصارعة، وازداد الشك في قدرتها على إدارة المرحلة الجديدة، وهو ما أفرز مواقف نقدية لأداء الحاكمين والمعارضين، وعادت لهجة التأفف من السياسة والسياسيين. وإذا كان بن علي قد أجهض السياسة عبر التخويف والترهيب، فإن ما يخشى اليوم بسبب هذا العجز النخبوي أن يقرر التونسيون هجرة المجال السياسي من جديد. المؤشرات الدالة على هذا الاحتمال المخيف عديدة. من ذلك تصاعد نسبة التونسيين الذين يفكرون في عدم التوجه إلى الانتخابات المقبلة. كما أن نسبة المتابعين للحوارات السياسية عبر شاشات التليفزيون تتراجع بدورها بشكل لافت. لقد فشل السياسيون في تحويل هذه النقاشات إلى فرصة للتثقيف السياسي. كما أن اجتماعات الأحزاب أصبحت محدودة القدرة على جذب المواطنين. وهذه كلها أضواء حمراء قد تحول السياسة إلى حلقة جوفاء يستغلها عادة الشعبويون لتحقيق مكاسب انتخابية ضيقة. باختصار ما يجري الآن في تونس بين مختلف الفرقاء ستكون له تداعيات خطيرة على مدى ثقة الجمهور في السياسيين، وكلما ازدادت حدة أزمة الثقة في قدراتهم وإخلاصهم كلما أثر ذلك على درجات مشاركة التونسيين في صناعة المستقبل، أي في مدى استمرارهم في الرهان على السياسة كمجال رئيس وحيوي في تغيير واقعهم الراهن. لهذا أصبح من الضروري رفع الراية الحمراء، والقول لهؤلاء السياسيين: احذروا أنتم تلعبون برأس المال الرمزي الذي وفرته أجواء الثورة التونسية.