كانت وفاة الصديق الأستاذ الدكتور عوض القوزي، الأستاذ في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الملك سعود، قبل أسبوع فاجعة كبرى لأصدقائه وزملائه ومحبيه. وقد منَّ الله تعالى عليَّ بأن سهَّل لي المشاركة في الصلاة عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الفجر يوم الجمعة 1434/12/21 ه، وحضور مواراته قبره في مقبرة العدل بمكةالمكرمة، والتوجه بعد ذلك إلى مدينة القوز لأداء واجب العزاء في الصديق العزيز. وكما يروى عن الإمام أحمد قوله: «موعدكم يوم الجنائز»، في تبيينه أن مكانة الإنسان عند الناس ربما لا تتجلّى إلا حين يموت من خلال مشاركتهم في الصلاة عليه وحضور دفنه، فقد حضر دفن الفقيد العزيز عدد كبير أتوا من مدينته والمدن المجاورة ومن أماكن بعيدة أخرى. وذلك دليل على حب الناس له وتقديرهم لمكانته. وكان من كمال التوفيق أن أحظى برفقة الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك في الرحلة من الرياض إلى جدة. وهو أقرب الناس إلى الراحل العزيز، بعد أبنائه وإخوانه. وزاد من التوفيق في الرحلة كلها أن ينضم إلينا الأستاذ الدكتور أحمد الزيلعي، وهو رفيق الدكتور القوزي منذ صباه في مدينة الحبيل المجاورة للقوز. وكمل التوفيق برفقة الدكتور سعيد النغيص، عضو هيئة التدريس في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وهو من سكان المنطقة أصلاً. وقد أبى إلا أن يصطحبنا بسيارته من جدة إلى مكةالمكرمة ثم القوز وإلى جدة مرة ثانية. وبعد أن استرحنا ساعات قليلة في مكةالمكرمة بعد مراسم الدفن توجهنا، أربعتُنا، إلى القوز سالكين «الطريق الساحلي الدولي» الواصل بين جدة وجازان. وهو الطريق الذي تعرض فيه الدكتور القوزي للحادث. وهناك مشروع يجري العمل فيه لإصلاحه لكنه لم يكمل بعد، وما كمُل منه لم تتخذ الاحتياطات المعهودة في مثله لحمايته من الحيوانات، خاصة الإبل الموجودة بكثرة في تلك المناطق. ولما وصلنا إلى القوز بعد أربع ساعات تقريباً وجدنا عدداً كبيراً من المعزين فيه. وقد استقبلنا أخواه، الشيخ علي والأستاذ بلغيث، وأولاده وشيخ القوز الشيخ عبده بن محمد القوزي وعدد كبير من أقاربه. وبعد أداء واجب العزاء دعانا شيخ مدينة الحبيل المجاورة الشيخ عبدالله المقعدي إلى عشاء أعده ضيافة لنا. وقد غمرنا عدد كبير من الحاضرين بدعوتنا إلى منازلهم، ولم نتخلص إلا بشق الأنفس معتذرين بأننا أتينا للعزاء في أحد أعز أصدقائنا ولا نستطيع أن نخلط هذا الهدف بشيء آخر. ومع ذلك لم يتركنا بعضهم. فقد فاجأنا الدكتور أحمد الزيلعي بالقول صباح اليوم التالي بأن ابن عمه الأستاذ عمر الزيلعي يدعونا إلى الإفطار في منزله القريب. فذهبنا وفوجئنا بأن مسمّى «الفطور» للمائدة الممتدة التي قدمها لنا ليس إلا تدليساً! فقد كان يتوسطها ويحتل جوانبها ذبيحة مطبوخة على الطريقة المحلية اللذيذة في تلك المنطقة، بالإضافة إلى السمك وبعض المأكولات المحلية الأخرى. وكانت تلك المائدة العامرة تصلح لتكون غداء أو عشاء لعدد يفوق عددنا أضعافاً! وشاركنا في ذلك الفطور عدد من أقارب الدكتور الزيلعي الذين أصرّ كلّ واحد منهم على استضافتنا، وكنا نعتذر منهم ونتخلص بشق الأنفس مرة أخرى. وكانت الشكوى التي تسمعها من كل واحد في تلك المنطقة خطورةَ الطريق وكثرة حوادث السير فيه. ومن ذلك قول الشيخ عبدالله المقعدي: «إنه لا تكاد تمر أيام قليلة إلا وتسمع النائحة في أحد بيوت المنطقة بسبب وفاة أحد السكان في حادث سير». ويذكِّر هذا بقول الدكتور عوض القوزي -رحمه الله- الذي أوردتُه رواية عن الدكتور مرزوق بن تنباك: «لقد أكل هذا الطريق أولادنا». وعلق أحدهم على هذا القول بأن ذلك الطريق قد «ألحق الآباء بالأبناء». ومن الأسباب المهمة لتلك الحوادث الكثيرة القيادة المتهورة التي لا تكاد تخطئها العين. ثم غادرنا القوز ومررنا بمدينة القنفذة، وكان اسمها الأصل «القنفدة». وكانت ميناء للمنطقة ولا تزال بقايا سفينة دمرها الإيطاليون في حربهم ضد الأدارسة شاهدة للعيان. ولها شاطئ ممتد إلى مسافات طويلة لا يزال ملكاً عاماً لم يقتطعه أحد لمنافعه الخاصة. وكان يخطط لإنشاء ميناء جديد فيها، لكن هذا المشروع اختفى. كما ظل أهل المنطقة كلها يطالبون بإنشاء مطار يخدم المنطقة ولم يتحقق شيء من ذلك إلى الآن. ومما يلفت النظر ولاء أهل المنطقة لها؛ فهم يتحدثون عن تطويرها في مجالات شتى بانتماء واضح، ومن مظاهر ذلك حملة لتوعية النساء بالوقاية من مرض السرطان تقام في أحد الأسواق الحديثة. ويديرها الدكتور النشط، شامي بن حسين العذيقي وينفِّذها عدد من المثقفات والشاعرات في المنطقة. وقد مررنا بالموقع الذي حدث فيه الحادث للدكتور القوزي، وهي منطقة تكثر فيها الإبل التي ترعى شجر الأراك ونباتات الحمض غير بعيد من الطريق وتعبره جيئة وذهاباً على هواها ومن غير مراقبة. ومن المناظر التي لفتت أنظارنا وجود أنابيب يبلغ قطر الواحد منها أكثر من متر يشق لها على جانب الطريق. وهي تعدُّ لنقل مياه وادي حلي، وهو من أكبر الأودية في المنطقة، إلى جدة. ومن يرى تلك الأنابيب يظن أن هذا الوادي يماثل نهر المسيسبي في غزارة مياهه! وربما يكون أقرب شبيه لهذا المشروع مشروعَ «النهر العظيم» الذي بناه القذافي لجلب المياه من جنوب ليبيا إلى شمالها! وهو لا يبدو مجديا لأن مياه وادي حلي محدودة لا يمكن أن تديم ضخ المياه في تلك الأنابيب الضخمة. وربما يكون البديل الأجدى منه إنشاء محطات تحلية تضاف إلى محطة الشعيبة لأنها أقل كلفة. وستكون محظوظاً عند سلوكك ذلك الطريق إن كان رفيقك المؤرخَ عالم الآثار الأستاذ الدكتور أحمد الزيلعي. فهو يكاد يعرف كل حجر وكل شجرة في المنطقة. وكان لا يتوقف عن إيراد أدق المعلومات عن جغرافية المنطقة وزراعتها ونباتاتها وأشجارها ومساكن قبائلها وتاريخها السياسي والثقافي. وكان لا يورد أية معلومة تقريباً إلا ويوثقها بشاهد شعري من الشعر الفصيح، أو الشعر العامي في المنطقة. وأتمنى على الزميل العزيز أن يبادر بتدوين تلك المعلومات الثرية التي لا أظن أن أحداً يمكن أن يجاريه من حيث الإلمام بها. كانت تلك الرحلة، وإن كانت ملأى بالأسى على فقد واحد من أعز الأصدقاء، فرصة للتعرف على جزء عزيز من الوطن، وعلى رجال أعزاء تتمثل في كل واحد منهم أرفع قيم الكرم والأريحية وحب الآخرين. رحم الله فقيدنا العزيز الأستاذ الدكتور عوض بن حمد القوزي وأسكنه فسيح جناته، وعوضه الجنة وعوضنا وأهله خيراً.