لا أعرف سر الجفاء بيننا وبين النخلة، لكني أراه.. أرى شراستنا وإصرارنا على مزيد من القسوة، تجاهها، كأنها نبتة سامَّة أو شجيرة طفيلية نتفادى ضررها، نُمعن في تجويعها كي تنقرض ونتخلص منها. النخلة التي أخذناها رمزاً وعلامة، لمكان وزمان وبشر، يسمونه كله وطناً، كأنما اكتفينا بها للإشارة والرمز، وابتكرنا حيلاً كثيرة لنمحوها ونرسمها في المخيلة، كأنما غرسها في التاريخ والذاكرة، أحلى وأكثر دلالة على الأهمية، كأنها حية بيننا لا تحقق الرمز ولا معناه، لهذا نبحث عن حلول لتنفر وتستسلم لفؤوس تنهال ليل نهار، كأننا نقرأ عليها كل يوم «الفاتحة»، لتمضي مخذولة في طيات الماضي، أتصور في اختفائها أننا كعادتنا المكرسة سنمارس مهارتنا المعتادة في استدعاء الموتى والبكاء على رُفاتهم، وكلما غاب الرمز أكثر في سالف الوقت، كلما لمع بنيانه المفقود، واستطالت جنته التي فرطنا فيها بإتقان لا يحسنه غيرنا. تمرها أرخص ما يكون من ثمر الأسواق، والعناية بها أغلى ما يكون، وعلى الفلاح أن يصطبر ويفتقر ليكون فلاحاً، أما الأرض التي تقف عليها فهي أرض بخس، ينتزع منها القيمة، وعلى من يرغب في إحيائها ورفع قدره، أن يقلع نخلاته ويسويها بالأرض، أو يشعل حريقها في ليل، ويدعي الخطأ، أو أن يصك عليها الماء حتى ينخرها العطش ويميل رأسها مثل محارب يموت على فرسه، في ساحة المعركة… حينها فقط تستعيد الأرض قيمتها، يسترد التراب خالصاً من الزرع، ثمنه في أعين المرابين والأثرياء. إن لم تأكل النخلة سوسة حمراء، ستأكلها سوسة الهجر. أيها القادم إلى غابة النخيل، ودِّعها، قِف على مشارفها واحفظ ما تراه، لن ترى بعدها نخلة إلا في ورق العملة، أو إعلانات الحكومة، لن تراها إلا راجفة في الشارع مقيدة بالأرصفة ومخدرة بعوادم السيارات، لن تراها إلا عندما تقام مهرجانات الحنين ومآتم التذكر، فلا تبتئس، حين تسمع عن نخلة أخيرة حمت فسائلها من نباح الفأس، نخلة ستفرد أذرعها، خيفة عليهن من أنياب الجرافات، ستسمع مرثيات عن مآثرها، سينشد المنشدون عن أساطير مروعة، عن الوحدة والمشي فرادى في الحقول، عن فسائل تهن في الصحراء، وشتت أحلامهن، عن فسائل نهبن من صدور أمهاتهن مثل جراء لم تفطم. وستحكي الأمهات تنويمة أطفالهن عن نخلة ركضت عارية ووحيدة، كأنها البئر الموعودة والضائعة في العطش، تلك النخلة، تلك البئر التي لا تظهر إلا للضائعين ولهم حلية تلمع عميقاً في الليل. سنقول إن أجدادنا يهيئوون الأرض حرثاً وتنقية من كل حجر قاسٍ، وكأنها فراش ليلة العرس، ويغرسون الفسائل واحدة واحدة، في هندسة محسوبة لقرن قادم بكل أهواله، ويسهر عليهن رجال أشداء، يروونهن بماء سلسبيل، صباحاً ومساء، ويسهرون على رؤوسهن بالأغاني والمواويل، يلفونهن بالخيش الرطب وبسعف يابس له رائحة الأم، اتقاءً لعين الشمس، أربعين ليلة، حتى تطلق الفسائل منها سعفات مقوسة طرية، صرخات صغيرة تؤذن باحتفال الغرس وولادة حقل يتوارثه الوارثون. سهر أجدادنا قرب فسائل صغيرة، حتى تمد أعرافها الخضراء مثل بيارق سفن رست بعد رحلتها الأخيرة، ترفع كل منهن عرفها الأخضر في أول طلوعه، قبل أن يفرد خوصه ويصير سعفاً.. ذاك العرف الطري يسمى الخوافي.. طباق لريشة في جناح الطير.. طباق حلم النخلة، بالطيران من استعار الشبه.. بين الريشة والسعفة لابد أنه الطير يا عمة.