مر صباي في الأحساء بين النخيل والعيون مثل سهم، ولم يغادرها أبداً، لهذا كانت الكتب نافذة والكلمات خيلاً. أول مرة قرأت قصيدة السياب أنشودة المطر: «عيناك غابتا نخيل ساعة السحر.. أو شرفتان راح ينأى عنهما المطر» أدركت أنه يعني الأحساء، ليس مكاناً آخر ولا امرأة حسناء، وظل هذا الإحساس متخفياً في القلب لدرجة أن رائحة «الطبينة» (أدخنة حرائق يشعلها الفلاحون موسمياً) تكاد تدير رأسي الآن بمجرد قراءة مطلع القصيدة، حتى بعد أن ازددت معرفة جففت بصرامتها وواقعيتها من خيالات ذاك الطفل.السباحة في عيون الماء متعة خالصة، للشتاء عيون ساخن فؤادها وللصيف عيون أخرى، كأنها منازل الأهلة والسعد. أما العبور بين غابات النخيل فلها لذة تشتهى إلى الآن، وما أدراك ما النخيل في مطلع الفجر. وها قد كبرنا فجأة حين نضبت ينابيعها وجفت البساتين، دونما أن نسمع سؤالاً عن السبب يعدل حجم هذا الضياع. قيل أربعون عيناً وفي رواية قرابة مائتي عين فوارة الماء قبل ثلاثين سنة، والآن لم يتبق منها إلا محاجر أعين غائرة وحفر هائلة، كأنما أفواه تيبست على صرخة واحدة من هول الجفاف.جفاف عيون الأحساء ظاهرة لم يكشف عن أسبابها، وإن استمر الحال على ما هو عليه فلربما تتحول الواحة إلى بيداء يطيش العطش واليباس في جنباتها قريباً. هل ثلاثون سنة كفيلة بأن تعمي وتطمس كل هذه العيون دون فعل جائر عليها؟ عيون عاشت بصيرة قبلنا، مئات من السنين، لم يذكر التاريخ أن جفت عين أو كلت من الجريان، بل سمي بعضها أنهاراً من شدة الموج. كانت النخلة في الأحساء ابنة الماء المدللة، فأصبحت بعده يتيمة الدهر وأسطورة الثكالى. المدن النابهة تحفظ خضرتها وأشجارها، وتتباهى بكل شجرة تغرس، وتؤرخ لأعمارها، المدن النابهة تجرم قطع الشجر وتربي الأطفال على حبها وحمايتها، المدن النابهة تمنح الحدائق قلبها.. فماذا فعلنا؟ عندما نتغنى بالنخلة، على أساس أنها شعار وطني، نضعها في قصائدنا ونمنحها البطولة في حكاياتنا، نرمز لها بالحبيبة والوطن، وفي زمن مضى كان من يمتلك بستان نخل يعد من الأعيان والأغنياء، في حين يحدث العكس الآن، بل سيأخذنا الاستغراب أشده عندما نرى مبلغ الهوان الذي أصاب النخلة في الأحساء، بساتين مهجورة وأعناق نخيل منخورة وحرائق لا تعدها إلا حطباً للشتاء، هانت النخلة هواناً لا ينقطع عن تذكيري بقول العرب: عزيز قوم ذل. أن تمتلك نخلاً في الأحساء فهو عبء ومشقة، استنزاف وليس استثماراً، لدرجة أن يقال «أعانه الله على ما ابتلاه» لمن يرث الآن بستان نخيل في الأحساء. هل التغيرات الطبيعية هي التي أودت بعيون الأحساء؟ هل حفر الآبار العشوائية أحد هذه الأسباب؟ هل تحقير النخلة مقابل القمح؟ أم مشروع الري والصرف؟ هل آبار شركة أرامكو السعودية لها صلة بهذا الأمر؟ يتهامس أهل الأحساء -المسنون على الأخص- أن خلف هذه الظاهرة سبباً خطيراً ويتكتمون عليه، وعلى الرغم من حبي لحكايات المسنين إلا أنني لن أرتاح حتى أعرف من سرق أجمل أحلامي.