عماد علي بوخمسين استطاعت المخرجة هيفاء المنصور أن تجعل «السيكل» حاضراً في أغلب المشاهد ويشارك في البطولة ثلاث نساء تدور حولهن أحداث الفيلم، تتقاطع شخصياتهن في أحداث بسيطة، شيّقة، ولكنها تحمل رسائل قوية. فيلم «وجدة» صدر في نهاية 2012م بإنتاج سعودي أوروبي مشترك. بوستر الفيلم الطفلة الذكية وجدة لديها الرغبة في الجري واللعب في فضاء مفتوح بلا جدران، يظهر ذلك في مشاغباتها مع جارهم الصغير عبدالله صاحب الدراجة الهوائية السريعة «السيكل»… مغامرات بريئة وحوارات ظريفة بين وجدة وعبدالله قبل أن تقوم بينهما الحدود الاصطناعية بين الجنسين. وتتملك وجدة الرغبة في تجربة هذا الشيء العجيب الذي اسمه «السيكل».. وبعد أن جربت قيادة سيكل ابن الجيران، قررت أن تحصل على واحد لنفسها لكي تسابقه وتغلبه. ترى في أحد المحلات السيكل الأنيق بلونيه الأخضر والأبيض، كأنها ألوان الوطن، فيخطف قلبها الصغير. حلم واحد هنا بدأت شخصية وجدة تتشكل «تقوم بدورها الفنانة الصغيرة وعد محمد»، لديها حلم واحد هو السيكل، كأنه يمثل لها جناحين تطير بهما، وللحصول عليه تبدأ وجدة بصناعة أساور من الخيوط الملونة وتبيعها على زميلاتها في المدرسة لتجمع بعض المال. تنجح الخطة ولكن لسوء الحظ تصطادها مديرة المدرسة الصارمة الأستاذة حصة، وتمنعها من ذلك. ولكن هذا لم يوقف إصرار وجدة على الحصول على مبتغاها. يظهر إعلان في المدرسة عن مسابقة لحفظ القرآن الكريم وجائزتها الأولى تغطّي قيمة السيكل وتفيض. إذن هذا هو الحل، وتشترك وجدة في المسابقة وبالفعل تفوز في المركز الأول. عند استلام الجائزة تسأل مديرة المدرسة وجدة ماذا ستفعل بالجائزة؟ فتجيب بعفوية بأنها ستشتري «سيكل»، ولكنها كانت إجابة خاطئة في العرف المجتمعي، تسببت مع الأسف في حرمانها من الجائزة، إذ تقرر المديرة التبرع بمبلغ الجائزة للأعمال الخيرية بدلاً من إعطائها لوجدة! رحمة السائق العلاقة العذبة بين الطفلين وجدة وعبدالله، الاشتراك في المسابقة من أجل الجائزة، وأداء الأطفال الرائع أمام الكاميرا الخالي من التصنع، يذكرنا كل ذلك بفيلم آخر أنتج سنة 1998 م هو فيلم «أطفال الجنة Children of Heaven» للمخرج الإيراني القدير مجيد مجيدي، وكان من نصيبه كذلك الوصول لترشيحات الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي في تلك السنة. الشخصية النسائية الثانية في الفيلم هي أم وجدة. سيدة شابة يغيب عنها زوجها كثيراً، وتعمل في مكان بعيد عن منزلها مما يجعلها تحت رحمة السائق الآسيوي الذي يوصلها للعمل مع مجموعة أخرى من الموظّفات في سيارة متهالكة دون مكيف ورحلة شاقة تستمر ثلاث ساعات يومياً. واقع الحرمان أم وجدة «تؤدي دورها الفنانة ريم عبدالله» لديها شخصية خجولة، هادئة، تحب الغِناء، ولكنها راضية…! والرضا هنا هو رضا سلبي، يشبه القبول بواقع الحرمان والتعايش مع الاضطهاد لدرجة تقترب من عدم الشعور به أصلاً، ما عدا بعض التأفف عندما يتأزم الحال. تعترض الأم على شراء سيكل لابنتها، وتقول: «عمرنا ما شفنا بنت تركب سيكل» وتقول أيضا: «البنت اللي تركب سيكل ما تجيب عيال»! ويصل هذا الرضا إلى ذروته في مشهد عجيب، حيث تقف أم وجدة فوق سطح منزلها ذات ليلة وتنظر إلى أنوار العرس في منزل مجاور لهم. لقد كانت تلك هي ليلة عرس زوجها وذلك هو حفل عرسه على زوجته الثانية.. أم وجدة تعلم بحقيقة هذا العرس وتقف صامتة تدخن سيجارة وتنفث دخانها ليختلط مع أنوار عرس زوجها الساطعة في خلفية المشهد. على عكس ما يتوقع المشاهد، لا بكاء، لا جزع. فقط دخان…! الضحك ممنوع الشخصية الثالثة هي مديرة المدرسة الأستاذة حصة التي تُرهب الطالبات «تؤدي دورها الفنانة عهد»، وأينما توجد هذه المديرة توجد معها المشكلات. كثيراً ما تردد الأستاذة حصة على مسامع البنات عبارات متناثرة على مدار الفيلم مثل: «شتبون يقولون عليكم الرجال؟» و«انتو ما تدرون أن صوت المرأة عورة؟» و«ممنوع الضحك يا بنات».. وما أشبه ذلك. الأستاذة حصة هي المرأة التي تتجاوز مرحلة الرضا السلبي «كما رأيناه لدى أم وجدة» وتصل لمرحلة المرأة التي تضطهد المرأة. ملامح صارمة وحضور متوتر على الشاشة، وعباراتها الحادة تهدف إلى تكريس ثقافة العيب في الجيل الجديد. وهذا ما لم ترضخ له الفتاة وجدة، بل ظلت لآخر الفيلم تطارد السيكل. ذكاء واحترافية هيفاء المنصور يبقى البطل الأخير في الفيلم، وهو السيكل في حد ذاته. يبدو السيكل هنا رمزاً لكل أمل أو حق كامن في لا وعي المرأة. تتمكن كاتبة ومخرجة الفيلم المبدعة هيفاء المنصور بذكاء واحترافية من جعل السيكل يتفاعل ويحضر في أغلب المشاهد ويشارك أبطال الفيلم في البطولة. نستحضر هنا فيلما إيطاليا قديما ومميزا تمكن من اللعب على هذه المعادلة هو فيلم «Bicycle Thieves» للمخرج الإيطالي فيتوريو دي سيكا سنة 1948م. شخصيات نسائية متفاوتة يدور حولها فيلم وجدة. ولكن لم نجد مشهداً يعبر فيه الرجل عن رأيه في المشكلة ويشتكي همه هو الآخر، كان الحضور الرجالي في الفيلم ثانوياً بعض الشيء. قد لا نستغرب ذلك فالرجل يتحدث كثيراً منذ زمن والنساء تسمع، أما هذا الفيلم فقد صنعته النساء لطرح واقع النساء، وهنا تكمن أهميته. إغراق في المحلية فيلم وجدة هو فيلم يعالج واقعاً متناقضاً يشوبه الأمل والفرح، ويتناول موضوعاً شائكاً ببساطة. إنه الوصول للعالمية من خلال الإغراق في المحلية.. المحلية الواقعية التي لم تظهر في العلن بهذه الشفافية من قبل مما استثار الفضول حول الفيلم خارج السعودية. شيء ما في هذا الفيلم يجعله قريباً من قلب المشاهد، هناك مرآة وهمية يرى المشاهد السعودي واقعه من خلالها.