شدني براءة الأطفال وعبقرية التخطيط بعيدا عن الخوف أو احتمالات الفشل، لم تكترث وجدة بكلمة مستحيل، مارست كل ألحان الطفولة من الإبداع والتخطيط والصراحة والقوة في كل شيء ابتداء من صراحتها وعلاقتها الممتازة مع أمها إلى مشاكسة السائق وتحديه، إلى قدرتها على حفظ آيات من القران الكريم، إلى حياكة خيوط الصوف مستخدمة ألوان النوادي ثم بيعها. لم تكترث لكلمة مستحيل، بل حاولت أن تجمع المال بقدر ما تستطيع، أعطت معني للطفولة بكل المقاييس، الطفولة لا تخاف، لا تتردد، تمارس الأشياء كما هي بتلقائية ونشاط. *** هذا ما شاهدته في فيلم (وجدة) للمخرجة المبدعة السعودية هيفاء المنصور التي أبدعت في توصيل الفكرة والهدف بكل بساطة دون تكلف، جعلت الدراجة رمزا للحرية والانطلاقة، وهذا يتضح في عدة مشاهد عندما يمرح الصبي صديق وجدة بدراجة أمامها هنا تعشق (وجدة) الدراجة، وتتمنى أن تستطيع قيادتها، كم من الألعاب والأشياء المخصصة للذكور دون الإناث وكم من الأشياء المسموحة هناك غير مسموحة هنا، رغم ذلك لم تكترث لذلك بل تعلمت قيادة الدراجة وبالعامية (السيكل) في سطوح بيتها، ذكرتني هنا أني كنت أفضل حظا منها في طفولتي؛ حيث مارست ركوب الدراجة في الشوارع بانطلاقة كاملة بل أحيانا مارستها في وسط زحام السيارات حتى أتفاجأ بوالدتي تنادي وتنهرني من بعيد في حينها لم أكترث للخوف أو العقاب، هكذا هي الطفولة لا تأبه للخوف، لم تبرمج بعد للقيود. لم ينتهِ الفيلم من حرارة المواقف الإنسانية بصوره العميقة التي تشبه كثيراً من القضايا الاجتماعية والإنسانية، وهذا ما نشاهده في صورة المرأة العاملة الصابرة المحبة لزوجها ولبيتها، محاوِلة لفت انتباه الزوج بأي وسيلة حتى لو كلفها فستاناً أحمر باهض الثمن، رغم ذلك تحققت مخاوفها وتزوج الزوج عليها بدون أن يكون هناك أي سبب. شدني أكثر عندما بدأت الأم تخبر وجدة عن زواج والدها كيف كانت الصورة واضحة صورة الإبداع عندما تلاقت العيون، عيون الاستغراب وعيون الألم وعيون الوحدة، رددت هنا الأم لوجدة (لا عليك يكفي أنا وأنت مع بعض) وترجمت هذه الجملة بعدم شراء فستانها الأحمر بل أبدلته بشراء دراجة لوجدة لتحقق ما لم تستطع الأم تحقيقه. فيلم رائع جدا يبحث عن العمق في النفس الإنسانية، جسدتها الطفولة، جسدتها المرأة، بغياب الأب والزوج الذي لم يكن حاضراً أغلب مشاهد الفيلم، وهنا يُطرح سؤال هل هو واقع نعيشه؟ قراءتي للفيلم ليست قراءة نقدية سينمائية، بل مشاعر حركت الوجدان، وكأني أول مرة أشاهد مآسي من حولي من القضايا والحكايات. كما تطرق الفيلم إلى صورة أخرى أكثر نمطية في التعامل مع الطفولة في المدارس دون دراية ولا علم في كيفية التعامل مع كل مرحلة، سواء كانت طفولة أو مراهقة في تحريم كل شيء ومنع كل فرح وتفسيره فيما لا يحتمل التفسير بصورة تقليدية بحتة تخلق في نفوس الطفولة الخوف والرهبة وربما الكذب، كما يجعلني أسأل سؤالاً آخر: لماذا يظهر الرهاب الاجتماعي في مجتمع؟ هذا جعلني أتوقف قليلا عند جائزة وجدة التي حصلت عليها لحفظها آيات من القرآن الكريم وهي عبارة عن مبلغ مالي 1000 ريال، لكن تحول الحلم إلى سراب بسبب صراحة الطفولة عندما أجابت وجدة المديرة على سؤالها: ماذا ستفعلين بالجائزة؟ فتحدثت بتلقائية: سأشتري دراجة، وهنا اختلفت كل الموازين، وتحولت الجائزة بلمح البصر إلى تبرع لفلسطين؟ هذا الموقف لم يكن سهلا عندما تتحول الجائزة لتبرع لجهة دون رغبة الطفلة في التبرع لها، وبصراحة لو كنت مكان وجدة لكذبت كثيرا، هذا هو الشيء المخيف، كيف أن بعض التصرفات غير المسؤولة تحول الطفولة إلى احتراف الكذب، لكن ظلت وجدة متمسكة بصراحة الأطفال فقالت الحقيقة. كما لفت انتباهي دور المديرة في التشهير بالفتاتين في المدرسة أمام جميع الطالبات، لم تكتفِ بتعهد بل شهَّرت باسمهما أمام الكل، وهنا نطرح أيضا سؤالاً: كيف ستكون ردة فعل الفتاتين في المستقبل وهما في مرحلة حرجة وخطرة «مرحلة المراهقة»؟ وهل ستكون ردة الفعل الخضوع والاستسلام أم التمرد والعصيان؟ لم أشاهد فيلم وجدة كفيلم سينمائي فقط بل شاهدت قضايا المجتمع وصوراً تحكي أغلب مشكلاته، واقع اختلاف المفاهيم وقناعات الآخرين المختلفة والجهل في التعامل مع الطفولة والمراهقة بأساليب تبعث الرهبة والخوف والشك، كما يحكي أيضا واقع أغلب النساء في تحمل الأعباء بمفردها مع التزام صمت مهيب من أجل المحافظة على استمرار الحياة، وإن تكسر قلبها. أختم بالصورة الأخيرة المفرحة، كيف كانت علاقة الأم مع الابنة وجدة التي كانت تتسم بالصراحة والقرب والمشاركة والمساندة بين الاثنتين؟ وهذا ما تحتاجه أي ابنة وأي ابن.. تلك العلاقة العميقة التي تؤثر في شخصية كل منهما وتلغي أي اختلاف أو اضطرار للكذب أو الخوف أو الشك.