لم أكن أعلم أن فوق الغمامة السوداء رفرفة الشياطين، وأن تحت الأضواء الخافتة جثثاً تملأ المكان، وساقتني الأقدار تحت مظلة المجالسة والمؤانسة إلى حلبات بشرية يومية نهارية وليلية فرأيتُ أشلاء ممزقة بين أسنان جلسائي من آكلي لحوم البشر، ودماء قانية تقطر من شفاههم، وشممتُ روائح كريهة تزكم الأنوف تنبعث من هنا وهناك، وسمعتُ قهقهات فاسقة وروايات أحاديث ماجنة وأصوات موسيقى نشاز صاخبة تنبعث من أعماق الظلام، فانقضضت على إحدى الجثث لأفعل كما يفعلون، ولم أشأ أن أفوِّت المتعة البادية على وجوههم وهم يلتهمون الجثث واحدة بعد الأخرى متلذذين بمذاقها وهم يضحكون بعمق ويتبادلون الحديث وتظهر عليهم سعادة زائفة، ورغبت في المشاركة بالرغم من عدم اقتناعي، فقرَّبت طرف الجثة من فمي لأمزقها إرباً وكانت رائحتها مقززة، ووضعتها في فمي فكان مذاقها يبعث على الاشمئزاز وشعرت بالغثيان، ولكن سكرة حديث الرفاق ورغبتي في مجاراتهم وخوفي من غضبهم ووَجَلي من خسارتهم وفوق هذا وسوسة الشياطين وتزيينها لما نصنع، كل هذه أغلقت منافذ فكري أغرتني بأن أقضي الليل بطوله أقضم اللحوم، إلا أن صحوةً من ضمير وبقايا من عقل استوقفتني، ففاجأتهم بطلب الإذن للخروج من هذا المستنقع – مستنقع الجثث – وحاولوا جاهدين ثنيي عن الذهاب، إلا أنني قمت بتثاقل شديد وأنا أجر قدميَّ بصعوبة كأنني أنوء بحمل كالجبال ولا أعلم لماذا حانت مني التفاتة للجثث قبل المغادرة!، فراعني ما رأيت في وجوه الجثث من ألم وضيق، وبعضها تنظر إليَّ بعتب شديد كأنها تذكرني بسابق رفقة كانت بيننا، رأيت في عيونها قهراً مريراً وشعوراً بغدري وجورَ فُجُوري، راعني ما رأيت فلم أتمالك نفسي، تنحيت جانباً وانتحبت بحرقة، بكيت ندماً، وخجلاً من سوء ما صنعت، ثم طلبت من الله أن يغفر لي، وقدمت وعداً بالتوبة وعدم تكرار هذه الشناعة، ونحن في مطلع العشر الأول من ذي الحجة، قال تعالى (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه).