- وعي المرأة بجسدها يمنحها معرفة ذاتها بعيداً عن نظرة الرجل – كسر قيود الصمت يصنع خطاباً يجاوز المألوف ويدخل المكبوت ظل عالم المرأة مخفياً يقبع خلف الأسوار وخلف ما يقال وما يروى عنه، وأن تحكي المرأة حكايتها يعني أن تكتب إرادتها ووعيها، وأن تحكي الحكاية من الداخل متجاوزة قيود الصمت الطويل، وأن تكون موضوعاً للحكي لا ذاتاً فاعلة تمتلك اللغة واختياراتها المتعددة. وإذا كان النظر إلى المرأة -عبر عصور طويلة- يكون من خلال جسدها، فإن وعيها به يكون بداية لاكتشاف علاقة مختلفة معه ويمنحها معرفة بالذات بعيدة عن نظرة الرجل. لا يوجد شيء لعرضه وفي نصوص هدى ياسر، في «لا يوجد شيء لعرضه»، وعي بالذات، وبمدى الصراع الذي تعيشه المرأة في مجتمع يحكم عليها من خلال جسدها (بالنسبة إلي/ البقعة التي انتشرت على ردائي/ هي قدر./ تلك البقعة تجعلني،/ لا أصلح لشيء/ وهذا ليس رأيي). كان عليها أن تعيش محكومة في إطار ما لم تختره: جسدها. ومن ثم كان عليها أن تعيش في إطار الثنائية بين ما هي عليه وما تريد أن تكون من جهة، وما يريدها المجتمع أن تكونه ويراها من خلاله (وكبرت ك فراشة – يفترض/ لكنهم دهكوا أحلامي/ عائلتي/ قاتل أبي/ وجوارح الناس). ثنائية متعارضة المعرفة والوعي ألم في ظل التعارض القوي الذي تعيشه الشاعرة، ومن هنا تسير النصوص على هذه الثنائية بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وتظل الذات تتراوح بين هذين العالمين. تحضر المرأة في صورتين: التي تصدق حكايات الرجل وتشعر بالإهمال وتفكر بالانسحاب (صفحة 82)، والتي تتحول بدورها إلى حارسة للثقافة متماهية مع دور الرجل ومحافظة على الثقافة والتقاليد، لاسيما الأم (أخبئ وجهي/ تكيل لي أسطواناتها/ أنت فتاة بلا ظهر/ التهم الموت أباك فاعقلي)، فتحضر بقوة الثقافة الشعبية التي لا ترى المرأة دون حماية الرجل، ومن ثم تصير مكانا لعقاب المجتمع عند التمرد (كنت أكبر وتكبر أحلامي قبلي/ لا يسعني حصن ذكور الأقارب/ كلما مددت عنقي وبخوني – أوجعوا أمي/ وعنقي لا تحيد عن خطة القدر)؛ حيث يشتد التعارض بين الحصن والشاعرة التي تتمرد عليه فلا يطالها الوجع بقدر ما يطال الأم التي تتماهى مع الدور المقرر لها. مصدر الصراع يحضر الرجل أيضا باعتباره مصدر الصراع ومركزه (الرجال سواء في نظرتهم لفتاة مثلي)، الرجل الذي يتزوج أخرى رغم أنه طاعن في السن (العصفور الطاعن في السن/ لم يفته الاستعراض في موسم التزاوج/ الدودة التي تعاني الوحدة، كانت تتابع). والذي يظن أنه امتلك المرأة (المضحك ههه/ خياله أنها تحيك ثيابا له وحده). هنا تنقلب صورة الذاكرة التي تحيل إلى «بنيلوبي» التي انتظرت «أوديسيوس» في رحلة تيهه، لتحضر امرأة أخرى تفهم اللعبة وتتمرد على قوانينها (حتى نحن الفتيات/ لا يغرينا الزواج ب شاب نعرفه/ صرنا نفهم أن لحظات الحب../ كيس «شيبس» من النوع الذي نحبه/ ونتمنى ألا يفرغ/ ثم نتركه ل حارس العمارة في كيس أسود/ محكم الرباط). هي المرأة التي تعيش وعي الذات وتحب كيف أرادت، وتمتلك اللغة التي بها تخاطب الرجل مباشرة، تعريه ولا تصدق حكاياته (صفحة 26)، (أنا لست كما تظن/ أنا أحب الحياة وكل الكائنات/ كل ما هناك أنني اعتدت ألا أكونني/ خريطتي قدمتها إلى الحياة فسلبتني/ وتركت مني حفنة، كلما لمستها../ سعلت وهربت). اختيار وإرادة هي تدرك قانون الحياة وحتمية وجود الآخر/ الرجل، ومن ثم تدخل اللعبة باختيارها ووفق رغبتها وإرادتها، لا تنهزم برحيله، تريد أن تعيش في الضوء كما اختارت (إذا كنت قررت الرحيل/ لا تفعل ذلك على رؤوس أصابعك/ قليلا من الشمس يبسط الأمر). من هنا يعلو ضمير الأنا، ويهيمن الخطاب بضمير المتكلم، هي الشمس/ العنصر المؤنث الفخورة بذاتها (فخورة ب نفسي/ س أصنع لي تمثالا../ وأنصبه/ نعم لا تحدقوا إلي/ س أصنع واحدا وأنصبه على أنف التاريخ/ المعقول لملامح مملكتي). فتحضر صيغة التوكيد ويهيمن الفعل المضارع في وجه الإحساس بالغرابة وعدم التصديق والرفض. وغالبا ما يرتبط حضور ضمير المتكلم بالتأكيد على الوعي والتمرد، في حين تختار ضمير الغائب للمرأة التي تستسلم لقيدها (في حياتها/ ومع الكثير من الحسابات التي تجريها/ لا شيء يعدل أن تكون جزءا ممن تحب/ حتى لو كانت مجرد وسادة/ …/ بالنسبة إلي/ لا أرضى بمعادلة كهذه/ فمن عيني تشرق الشمس). تبادل أدوار يحضر الرجل كما أرادت الشاعرة؛ حيث يتبادلان الأدوار لتأخذ هي المركزية (يا رجل: أنا روضتك)، (انتبه، أنا ك أمنا الأرض/ وإن لففتني حول معصمك/ ما حسست الكائن الضخم يأسرك/ ستون حياة مضت/ ما تحررت؟/ يا للسخرية). (وانظر مثلا صفحات 26، 30، 44 و74). ويكون لهذه الرؤية دورها في الرموز المستدعاة في النصوص، كما يحضر خطاب الرجل بصورة تكسر النسق الثقافي حين تستخدم مسمى «الصديق» في عدد من النصوص، لتتجاوز الإطار المتعارف عليه في العلاقة بين المرأة والرجل (أنا لا أبالغ يا صديقي إن قلت/ أن لا أحد/ لا شيء أشبعني/ ف لكل جوعه)، ووحدها الشاعرة تعي سر هذه العلاقة التي يسوغها الشعر في المقام الأول (الحزن ضخم يا صديقي/ من سيتلو نبضي؟/ كتبت لك خواطري/ وقصائدي الأخيرة/ وحدهم الشعراء سيفهمون/ أن شاعرة،/ كتبت في شاعر). كسر الحصار تبنى النصوص في أغلبها على إقامة خطاب مغاير للرجل وعنه، فإذا كان الرجل والمجتمع يغيبان المرأة أو يحاصرانها، فإنها من خلال اللغة تكسر هذا الحصار وتعلن اختياراتها وإرادتها وتكتب جسدها كما شاءت. وعلاقة المرأة بجسدها لا تقف عند مكوناته البيولوجية فقط بل أيضا بالمكونات الاجتماعية والثقافية التي تعيد تشكيل نظرتها إلى ذاتها وإلى الآخر، وهو ما دفع بعض الدراسات إلى التعامل مع الجسد كموضوع للصراع بين الفرد والمجتمع. وتأتي نصوص هدى ياسر كسراً للنسق وتجاوزاً له عندما تحاول إعادة صياغة العلاقة مع الآخر، وحين تختار أن تتجاوز كونها موضوعاً للحب. فيحضر خطاب الجسد مباشرة وتلميحاً، وتمتلئ اللغة بمحمولات الجسد. تجاوز المألوف هكذا تنحاز النصوص إلى كتابة شعرية تتجاوز المألوف الرومانسي، وتظهر توتر الأنثى التي تستعين بالمخيلة والحاسة البصرية واللمس في الوقت نفسه لتعيد صياغة الأدوار من جديد، وتعيد التعامل مع التعالي الذكوري حين تمنح ذاتها حق الاختيار وحق استحضار الرجل أو تغييبه وفق إرادتها الخاصة. فتصير الدودة/ المرأة شجرة يلاحقها العصفور/ الرجل، ويغدو الجسد بؤرة محورية يتكثف ويحضر عبر الصور الحسية للمرأة «الكونية» التي تعيد تأمل ذاتها والآخر في الوقت نفسه وفي جرأة تعبيرية تسعى إلى خلخلة السائد وتفجير المكبوت في العلاقات اليومية والإنسانية العادية (وانظر صفحات 94، 95، 118، 124، 127، 129، 137… إلخ)، لتتماهى الشاعرة مع زليخة (زوجة عزيز مصر) التي أعلنت عن رغبتها دون أن تبالي بالثمن ما دامت اختارت التمرد طريقاً. تقول الشاعرة في أحد النصوص الذي شكل أيضا صفحة الغلاف الأخيرة (في وقت فراغ/ فكرت أن يكون لي إرث/ يصبح مقدساً بعد موتي/ في فراغ آخر،/ تمددت/ وتمنيت أن أكون الموت) لتكتمل الدائرة ويكسر الفراغ/ الصمت، ويكون الانزياح في تمني أن يكون الموت بما هو قاسٍ وموجع وعصي على النسيان، عوضا عن الوقوع في البكائية ورثاء الذات وتمني الموت. إنها حين تكتب إرادتها وتكسر قيود صمتها تصنع إرثها في خطاب شعري يجاوز المألوف ويدخل إلى المكبوت محاوراً ومتمرداً ومنتصراً على الخوف.