إن النظر في نصوص «صبا طاهر» يقف أمام الثنائيات المتضادة التي قامت عليها، فبين الوعي والفعل مسافة أملتها ظروف الحياة المحيطة، وحين يكون الإبداع وعياً واختياراً يمكن النظر إليه من حيث هو عملية نبش للذاكرة، واستدعاء لطاقة الحلم، وتجربة للأنا في مواجهة الذات والحياة والعالم. وفي مواجهة الذات والعالم تحضر مكوناته الاجتماعية بما هي عناصر مكونة للفعل الشعري، فتهيمن على النصوص علاقات مبنية على مكونات ثلاثة: الأب، الأم، الرجل (الزوج/ الحبيب…). وتتحدد هذه العلاقات وفق رؤية الذات للعالم وصراعها معه، فتغلب مفردات السلب والغياب على الطرف الذكوري فيها: الأب الغائب، والحاضر في خشخشة المفاتيح، والسلطة المهيمنة على الأم. والغياب الأكبر والمطلق من خلال الموت، ومن ثم صار موته معادلاً للغربة والحزن، واختياراً للموت، وجاء حضوره في النصوص مرتبطاً بكل مفردات الغياب والضياع والألم. كما تغلب مفردات السلب أيضاً على الرجل الذي يظهر في صفة زوج سابق أو حبيب غائب وضعيف محاصر بالخوف (لا تحاول منعي من السقوط/ خوفك يضاعف رغبتي في الهاوية)، ومن ثم يرتبط بمفردات النفي والتمني والسلب (لست أنت/ لست أنت) (انظر مثلاً ص 21، 50، 53، 74، 87، 101). أما الأم (مثيل الذات ونقيضها في آن) فقد ارتبطت بمفردات الخصوبة والشجر التي تحيل إلى أمومة الكائنات بأكملها، الأم الشجرة (أيتها القوية/ الصلبة كجبل/ الواثقة كعاصفة…)، هي الوجه المشرق والمسالم للذات، الشجرة وظلها، لكنه في الوقت نفسه وجه الضعف والاستسلام والتماهي مع دور الرقابة على المرأة وحصارها (انظر مثلاً ص 12 ،22، 36، 77، 120-122)، ومن هنا غلبت على المفردات المصاحبة للأم مفردات التناقض: الضعف/ القوة، الحياة/ الموت، الصمت/ الكلام) كما هو التناقض بين الوعي والاستسلام (الأم / الابنة) (أنا السكين، وأنت الوردة / كنت العاصفة وأنت الغصن الأخضر / كنت الذنب، وأنت الجنة… ) لتصير الأم كما الابنة نقطة التقاء المتضادات. غلاف ديوان صبا طاهر هكذا ينعكس القلق صراعاً يتحول إلى إحساس حاد بالوحدة فتبرز المفردات الدالة عليها وتكرار (أنا وحيدة)، (امرأة وحيدة) في مجمل النصوص كما تكثر مفردات (الألم، الشتاء، المساء، الكآبة، الظلام، الوحدة، البكاء، الوجع، الحزن، الغياب، العدم، الدموع، الظل…)، (امرأة وحيدة / تتكيء على جدار العجز / لتنصت لحكايات الريح) حيث يختفي الفعل الحقيقي، وتكتفي بالاتكاء والإنصات، واختيار العتمة والليل (ص 28، 33، 40، 48) لتصل إلى اليأس والإحساس بالعدمية (لم أعد أصلح لشيء/ ولا أن أكون علامة لكتابك) بل إلى اختيار رفض الدور التقليدي للمرأة المتمثل في الإنجاب، إذ تختار لأطفالها المنتظرين عدم الوجود مذكرة بما ذكره المعري سابقا (أتحسس بطني المسطحة برعب وحنان / أود لو يفهمون أنني أفعل ذلك لأجلهم / لو أتوا حقا للحياة لأحبوني ولعنوني / أود أن أخبرهم أنه ما كان باختياري أنني هنا). وحين تتسع الهوة بين الرغبة في الفعل والعجز عنه يكون تصغير الذات (إني غلطة هذا الليل) ويكون الموت أمنية وحلا (من أجل الروح التي جرحتها الحياة،/ التي ترغب أن تضمها العتمة إليها،/ قلت لكم وداعا،/ لأن الحياة / تدفعني حتما، تجاه الجنون) (وانظر ص 37، 73، 102 وغيرها). تظل الذات في صراع بين التمرد والهزيمة مدفوعة بسؤال الكينونة، ومن هنا يظهر في النصوص تجسيد واضح للحياة في الأشياء والكائنات بحثاً عن الحرية، في محاولة للنأي عن المكان والبحث عن فضاء بديل، فيصير العصفور معادلاً موضوعياً للذات، ويتكرر الحلم في أن تكون الذات عصفورة بدءا من النص الإهداء وانتهاء بمفردة «العصفور التي ترد كثيراً وتهيمن على عدد واضح من النصوص (11،14، 24، 47، 62، 65، 84، 88، 136…). إضافة إلى ذلك يبرز التماهي مع كائنات الطبيعة الذي يبدو رومانسيا يميل إلى الصراخ والتوجع أحياناً، لكنه يعود ليأخذ شكل السؤال الوجودي الذي يستفيد من الحضارات القديمة التي آمنت بخلود الروح وعودتها، واستمرار دورة الحياة متمثلة في دورة الطبيعة وعودة النباتات إلى الحياة بعد موتها، ومن هنا تكثر المفردات الزراعية المرتبطة بالأرض / الأم الكبرى حيث تتوحد الكائنات، ويكثر تعبير الكاتبة عن رغبتها في أن تكون شجرة أو تتحول إلى شجرة أو بذرة (قلبي بذور حنطة وريحان / قلبي المطر وحجارة الوادي / قلبي تراب لخطاه)، (سأظل سر الزهرة)، (قلبي بذرة)، (وانظر ص 58، 65، 67، 71، 93، 150، 108 وغيرها). رغم هذا الإحساس بالعدمية والهزيمة الذي يشد عدداً من النصوص إلا أن الذات تعيش كينونتها ووعيها، وينكشف تمردها عبر التعبير الصريح – كما سبقت الإشارة- وعبر محاولة تجريب شكل مختلف في الكتابة. بدءا تختار قصيدة النثر بما هي تمرد على النسق والمألوف، مع اختيار لغة تقترب من مفردات الحياة اليومية وتبتعد -إلى حد ما -عن إعادة تشكيل العلاقات اللغوية والتكثيف. واعتماد صور شعرية قائمة على الإضافة وتداخل مدركات الحواس على طريقة الرمزيين (تجاه الفجر الأزرق، مزاج الريح، أجراس ضحكتي، رائحة الأحلام، وغيرها.) وداخل هذا الإطار يأتي التجريب النصي متخذاً أشكالاً أخرى أبرزها بناء النصوص على عناوين كبرى تأتي تحتها مجموعة من النصوص المرقمة، حيث تجتمع النصوص تحت محور مهيمن وتيمة معنوية واحدة، إضافة إلى ذلك يُذيل العنوان باسم أغنية أو مقطوعة موسيقية، وينتهي أيضا بأغنية أو مقطوعة أخرى بحيث تكتمل دائرية النص بينهما. وغالباً ما تكون الأغنية أو الموسيقى مرتبطة بدلالات النص السابق (مثلا: «شجرة تواعد الظل»، تخاطب الأب الغائب والإحساس الحاد بالوحدة وتنتهي ب «ندهتك خلصني من الليل»، أو تتناسل الأغنية النهائية من إحدى كلمات النص الأخير، «المسني أيها الألم» أشارت في النص الأخير إلى أغنية كردية، وانتهى النص بعنوان أغنية كردية. ويختلف النص الأخير في المجموعة، حيث ترد في منتصفه أغنيات تأتي كفواصل بين نص طويل وإن لم تختلف عما سبقه في التماهي مع تيمة النص أو المقطع السابق للأغنية (مع نداء الحبيب تأتي غادة شبير «أنت حبيبي»، مع الخوف والوحدة ونداء الأب تأتي غادة غانم «تركوني أهلي» وهكذا). وتختم النصوص بإيراد موقع «يوتيوب» الذي يمكن فيه للمتلقي الاستماع إلى الأغاني والمقطوعات المختارة، وبذلك تنحاز إلى مشاركة القارئ في النص وفي تلقيه. إضافة إلى ما سبق تظهر النصوص ميلاً إلى التوحد بالثقافات الأخرى، وذلك عبر اختيار كتابة أسماء العدد الأكبر من الأغاني والمقطوعات الموسيقية بالإنجليزية، واختيار الأرقام الهندية لترقيم النصوص، وهو اختيار لا يبدو عشوائياً؛ إذ الأرقام كما يقول القديس أوغسطينوس «لغة الكون وهبها الخالق للبشر من أجل توكيد الحقيقة»، فيغدو الاختيار هنا تأكيدا لاختيار شكل مختلف للكتابة يتوازي مع اختيار البعد عن الوزن التقليدي أو القصيدة الطويلة التي تدور حول فكرة أو عاطفة واحدة. كما تنحاز الكاتبة إلى تجريب آخر عبر التناص ووضع عناوين للنصوص تعتمد على مقولات لكتّاب متنوعي الهوية (كافكا، عبدالله ثابت، لوركا، ابن عربي، جبران) وهو اختيار يحيل إلى مصادر غربية وعربية واتجاهات عبثية وعدمية وصوفية ورومانسية تحفل كلها بقلق الوجود وسؤال الكينونة، الأمر الذي يتماهي مع قلق النصوص وبحثها عن وجودها. هكذا تجسد النصوص قلق المرأة المقموعة الذي تحول إلى تمرد عبر الكتابة، وهو وإن لم يتحول إلى ثورة وبقي موجهاً إلى الذات، وصرخات احتجاج تتحول إلى اختيار العزلة والحزن أو تمني الموت، إلا أنه يحاول الانتصار عبر الحلم وتمني الطيران، والاستنجاد بفكرة التحول والتماهي مع كائنات الطبيعة، أو انتظار زمن قادم تمتلك فيه اختيارها وحريتها (أعرف تماماً، أني لا أكتب لهذا الزمن / كلماتي هذه/ لعالم لم يأت بعد)، ليأتي النص الأخير مكثفاً لنصوص المجموعة كلها (امرأة ضائعة تسأل عن الطريق إلى السماء) وتكون الغيمة القادمة كتابها، وكما بدأت بأمنية أن تكون عصفوراً، انتهت صفحة الغلاف الأخيرة كما انتهي النص الأخير بأمنية أن تكون شجرة ليتحقق الحلم في زمن قادم وتتأكد دورة الحياة. * كاتبة وناقدة سعودية