لكل مدرّس قصته وغصته مع مناهج المؤسسة التعليمية ووصاياها، وله مغامراته أيضاً مع طلابه، فقد انتبه غسان كنفاني ذات يوم على خطيئة ازدرائه لطلابه المعدمين، الذين يحضرون إلى المدرسة بملابس متسخة ومهترئة، فكفّ عن توبيخهم بمجرد أن اكتشف أنهم أبناء مخيمات الفقر والبؤس. أما زياد خدّاش، المسكون بالإبداع، ومعاداة الأنظمة المعنية بتعليب الكائن، فقد تفنن في البحث عن (طرق ثقافية لقتل القتل). أي تحرير فضيلة التدريس من وظائفيتها المميتة، حيث حُكم عليه بممارسة مهنة هي بمثابة (جريمة بحق أجسادنا أولاً، وقتلاً واغتيالاً لروح الإنسان فينا وإمكانياته). وبموجب هذه المفارقة جادل ورطته التربوية في كتاب صادر عن مركز القطّان للبحث والتطوير التربوي، في رام الله، بعنوان (أوقات جميلة لأخطائنا النضرة – نصوص في خيانة السياق) الملحق بلافتة تفسيرية دالّة (الكلام الصفي وقصة إنتاجه تعبيراً) والمزيّن بغلاف ولوحات داخلية معبّرة للفنان جاد سلمان. ولأنه ضد كل ما يمكن أن يعطّل الحواس باعتبارها مجسات حضور الكائن البشري، حاول بكل ما أوتي من حب لنص الحياة أن ينزاح عن خواء الممارسات التربوية التلقينية، القائمة على أسلوب التعليم البنكي، إلى مفهوم (التعليم كممارسة للحرية) كما بشر به بول فرايري، صاحب مشروع ونظرية (تعليم المقهورين). كما بدا رفضه واضحاً تحت عنوان (تجربتي في تدريس الكتابة الإبداعية للصف السابع) حيث تجاوز مفردة (التعبير) إلى ما سماه (كتابة إبداعية). وهو انزياح لا يكتفي بملامسة مظاهر فكرة (الإنشاء) بل يزعزع جذورها، ليلغي هبائية الاستساخ الذهني. وقد عنى بها تلك (الكتابة التي تقع خلف السور) التي تقفز بالكائن إلى ما وراء المحرمات الثقافية، وتحرّر خياله من القيود، بالإضافة إلى الموسيقى بما هي أخطر المفاهيم التي (تدرب الذهن على القفز على أسواره المرسومة له) وتأخذ الكائن إلى أعماقه. حيث الحافة التي ينفصل فيها (المألوف عن الغرائبي، والواقعي عن الخيالي). ومن ذات المنطلق التدميري عبر بطلابه إلى ما يخافونه ويجهلونه ويخجلون منه، من خلال حوارية واقعية معهم، تقوم على التشارك والتجادل الخلاق معرفياً وجمالياً، بعد أن ألغى بشكل طوعي تفويض المؤسسة له -الرمزي والمادي- بتلقين طلابه خام المواد التعليمية، وصولاً إلى حالة من التكاذب التي تمكّن الذات من تخطي الحدود واكتشاف ممكناتها ومواطئ أقدامها في الحياة. وفيما يشبه التفكيك للمناهج التي تقوم على وهم المثاليات المحنّطة، يحاكم مؤلفيها الذين خططوا وقرروا إخصاء المخيلة، حيث يرفع لافتة احتجاج محقونة بعبارات صاخبة (حرب ضد اليباب، حرب ضد التسطيح – إعدام الخيال في منهاج اللغة العربية). وبمقتضاها يجادل معضلة النمو اللغوي، المحكومة بمضامين متخثرة، تخلو من الجرأة والحيوية، وتفتقر إلى رحابة التعبير، بل تمنع الطالب حتى من مصادقة اللغة، إذ لا يوجد في تلك المناهج سوى الموضوعات الجاهزة، التي تولّد بدورها الكلمات المصنوعة بأناقة لفظية، والأفكار البائتة، المستنقعة في التقليدية. ومن ذلك المنطلق صار يدك حصون الأسلاف بمساعدة طلابه، أو من يسميهم جنوده، ليمارسوا الأحلام داخل نصوصهم بمنتهى الحرية، وليخترقوا الوصايا، وينقلبوا على الخوف، وينعتقوا من العبودية. وعلى طريقة جان جينيه، الذي حرّض طلاب الإصلاحية على التمرد، وتدمير نظامها القائم على مصادرة الذات، بدل أن يعزز فيهم روح الولاء واحترام النظام، كما توسّم فيه القائمون عليها باعتباره أحد أبنائها، قرر زياد خدّاش أيضاً تفكيك تلك المنظومة القاهرة، فيما وضعه تحت عنوان (جماليات التخريب وسحر اللامتحقّق – تدريبات صفية على ممارسة القفز من النوافذ وعناق الحلم) حيث دفع طلاب صفه للتمرد، وقادهم بنفسه للفرار من المدرسة عبر نافذة الفصل، واهباً إياهم (حق التجريب وممارسة الأخطاء). غير آبهين بصيحات المدرّسين الامتثاليين، الغاضبين من فعلته المناقضة لكل المقومات التربوية، وبدون أدنى استجابة لتوسلات مدير المدرسة الذي كان يرجوه أن يتراجع لئلا ينحرج مع ضيوفه، فيما كان هو يغرس في طلابه فكرة الجنون، وتحطيم الحدود، وارتياد الآفاق اللامتوقعة، والسخرية بلا مبالاة من التهديدات المنهالة عليهم من كل صوب، أي الإمعان في التخريب الذي صار يكتسي لحظتها معنى تحطيم السيىء. هكذا أخذ نصه القائم على امتزاج الرومانسي بالثقافي، يتنامى سردياً ليؤسس صدمته الجمالية، فيما يصعّد من الوجهة الموضوعية روح التحدي وكسر الاعتيادي، وكأنه يشدّد على إعلان انتمائه لسلالة المعلّمين المحتجين على كل ما يمت للنظام بصلة، لدرجة أن التمرد تحوّل عنده من مجرد نزوة أو نزق إلى مبدأ تقويضي، أو ما سماه (اعتناق عقيدة التجاوز في البحث عن الكلام الضائع) كما حاول اختبار ذلك الاعتقاد وتصديره لتلامذته في (تجربة في تدريس نص) حيث وقع الاختيار على نص محمود درويش (ورد أقل). والذي بموجبه شكّل مختبره المكون من عشرة طلاب ممن يحبون الأدب، وقرر معهم الإطاحة بطريقة التفكير القديمة، ونسف حصون المعاني المكررة، وابتكار مفاهيم مفتوحة وقابلة للتجديد، إذ حاول وصل الشعر بالواقع، وإيجاد ما يكفي من الوشائج بين الكلمات وغريزة حب الحياة، فكانت القصيدة المكتظة بمفردات الموت والنخلة والأغنيات والغياب والتراب بمثابة تمرين على التفكير في حياة مغايرة. إنه كتاب وقائع لا يعوزها التخيُّل، أو ما وصفه بالتحليق غير الشرعي (فوق جبل الثلج المسمى مدرسة) فكل حكايات الفضاء المدرسي ويومياته أرادها مادة قابلة للتداول مع طلبته لتوسيع معيارهم الأخلاقي والجمالي، من خلال محاورتهم بحرية تامة، وتدريب عقولهم الصغيرة على التفلسف، لتوليد شكل جديد ينتصب بموجبه السؤال، والنظر إلى الوقائع من زاوية مغايرة لجاهزية الواقعة، حيث فتح معهم مائدة سجالية حول (حكاية أيمن الطالب المذعور الذي ضُبط في الصف يتحسس جسده) ليتعرفوا على أهم محظوراتهم، بما هو -أي الجسد- أهم بنية رمزية ومادية يقيمون فيها، وعليه صار ذلك النسيج يتمظهر من خلال إجاباتهم ووعيهم الطري بوصفه (ورطة، متعة، سر، إطار، سؤال، عذاب، جمال، خيانة). ثم أخذ يتشكل في أبعاد أكثر تعقيداً وقابلية للمقاربة بعد أن طلب منهم إعادة صف الكلمات تلك في جمل مفيدة، لدرجة أنهم أبدوا من التعاطف مع أيمن ما يكفي لصد لعنات المدرّس وتقريع المدير. ويبدو أنه أراد أن يكون كتابه بمثابة درس في الدّرس، حسب تعبير بيير بورديو، في فك الاشتباك ما بين الرمز والسلطة، في تعرية سوسيولوجيا النظام التعليمي الخائب وعدم قدرته على تخليق الذات الجمالية العارفة، الأمر الذي يفسر شكله الكتابي كمقتطفات من سيرة كائن مهجوس بإعادة تركيب خطاب الحياة، كما يؤكد هذا الهاجس عند ملاحظة كثرة الطرق على التحريض، أو تلك هي طريقته في تعليم طلابه شاعرية العلاقة بين الشجرة بالمرأة، ومطاردة الدهشة، وتفسير المعنى الخفي بين الأطفال والبحر والكتابة، وحب الآخر، واحترام الأديان، وعدم الخوف من المختلف، وعشق التنوّع الذي يعطي الشعور بالتنقل، وعدم استشعار أي تناقض بين فلسطينيتهم وإنسانيتيهم، من خلال ما يدفعهم لاشتقاقه من تداعيات غامضة وقابلة للمجادلة في (أجساد وحكايات) حيث يسرد حكاية عطية، تلميذ الصف الخامس الذي حرضّه على أن يرقص رقصة الخوف من الليل مقابل أعضاء نادي الجسد، كما رسم مشهد الاحتفال بكسر حاجز الخوف، بعبارات شاعرية (هشاشة تنظر إلى هشاشة. حكاية تتأمل حكايات). ومن ذات المنطلق يروي (حكاية معلم الفن المجنون ذي العينين المشجرتين وطلابه الذين اختفوا فجأة) ويصفه بالكائن المجنون الذي يتعاطى التحريض على التحول والذوبان في الأشياء سبيلاً للتعلم والحب والحياة. هنا مكمن قوة الخطاب الذي يقرأ نفسه، المستمد بشكل تطبيقي من بعض الكلام الصفي، كما أخبر بها المدرّس الذي درّب طلابه على مواجهة هواجسهم، وألا يخجلوا من إبداء أحاسيسهم، أو الخوف من أن يُقبض عليهم متلبسين بمشاعرهم، وبالتالي لم يكن بمقدوره هو الآخر إلا أن يكون أمثولة حية لما نادى به، كما أبان عن شفافية حضوره النفسي والجسدي في (اعترافات مدرّس تمدّد على الأرض واستسلم للشمس لتنهشه). كما صمّم على أن يتباوح به مع طلابه كل أسبوع، في الحصة السرية التي ابتكرها واستلها من برنامج الدروس. ولم يكن يبالي بأن يفصح عن انكساراته، عندما واجههم بعبارات تنم عن شجاعة المهزوم (سأدلق خيبتي أمامكم، كما علّمتكم أن تفعلوا). بل انه لم يخجل من مكاشفتهم ببعض حميمياته، لدرجة أنه عندما أسرف في فتح خزان ذكرياته العاطفية لمح أحد الطلاب دموعه فهمس لجاره (انظر عيون الأستاذ... ثمة لمعان مبلل. هل تراه؟). لم تكن فكرة خيانة السياق مجرد قصص متخيّلة أو مختلقة، بل وقائع من الفضاء المدرسي أعاد زياد خدّاش تنصيصها برهافة لغوية، وفي لوحات تعبيرية مفتوحة للتأمل وعصية على التجنيس، وهنا مكمن لذتها كنصوص، حيث تتطابق ذاته مع منطوقها بلا احتراز ولا تردد، كما يؤكد هذا التمازج بين المكتوب والمعيوش في نص الحياة بقوله (مرّ أمامي شريط الحوارات التي أجراها معي صحافيون حول علاقة نصوصي القصصية بحياتي الشخصية، كنت أجيبهم أنا نصوصي ونصوصي أنا). وبموجب هذا التصريح الباتر، يمكن استيعاب ما كان يعانيه ككائن جمالي في محاولته الثورية الدؤوبة لاستزراع جينات التمرد في نفوس وأجساد طلابه، لينتفضوا على بلادات الاعتيادي، كما يمكن التقاط هذا الهاجس في عباراته المعجونة بالتململ (بدلاً عن التباكي على فساد نظامنا التعليمي والتربوي، وبدلاً من التذمر اللامجدي من بلادة المنهاج وغبائه، أجد نفسي متمرداً على كل شيء: على المنهاج، على المفتش، على المدير، على نظام الجلسات في الصفوف، وحتى على لون الستارة في الصف...) ومن ذات المنطلق العصياني يمكن فهم النهاية الكارثية بمعناها الافتراضي، التي جاءت بما يشبه مشهد الغضب الطلابي في فيلم آلن باركر الشهير THE WALL فبعد أن تشبّع طلابه بتعليماته إلى حد لم يكن يتصوره، قرروا جمع برابيج المعلمين التي يضربون بها الطلاب، ورمي الطباشير، والبدء بثورة التخريب إلى الأحسن، أي تجريب بعض حداثته وجنونه، والاحتفاء التطبيقي بجسديتهم، كما علّمهم، وحينها بدا وكأنه استيقظ من حلم عنوانه (طلابي الانتحاريون يحتلّون المدرسة) حيث بات وجهاً لوجه أمام نتائج تربيته المتطرفة التي أدت إلى انجرافات غير محسوبة، ولم يكن بمقدوره آنذاك إلا موافقتهم وإبداء الحماسة لفكرتهم، وهو أمر غير مستغرب من المدرّس العدمي الذي قوّض الأسباب لصالح الفوضى، الذي دخل ذات يوم على طلاب الصف التاسع قائلاً لهم (إني لا أمتلك مزاجاً للتدريس هذا اليوم، دعونا نتواطأ مع جمالنا الداخلي ونخون سياقنا المدرسي المجرم). وهكذا أغواهم بالتواطؤ معه على إلغاء الحصة والاستماع لفيروز.