ميساء الخواجا - فعل الكتابة يتطلب روحاً متمردة وخروجاً على تاريخ الصمت الطويل - تنطلق نصوص الرواية من الوعي بأزمة المرأة ممتزجا بأسلوب غنائي - كتابة الشعر خطيئة كالحب والحلم.. والوعي بهذا يقود الذات إلى القلق حين قررت المرأة الكتابة اختارت اقتحام عالم كان حكرا على الرجل، وبعد أن كانت موضوعا لها صارت ذاتا فاعلة تحكي نفسها وترسم عوالمها. فعل الكتابة يتطلب روحا متمردة على الأعراف والتقاليد وصوت القبيلة والقيم الموروثة، وخروجا على تاريخ الصمت الطويل ومراقبة العالم خلف الأسوار. حاولت المرأة أن تبحث عن صوتها، واختارت -من ضمن وسائل عديدة- الغوص في ذاتها وعالمها في حوار مع الأنا والآخر الذي يحاصرها لتلتحم بأفعال الحياة وكائناتها. وكتابة المرأة عن عالمها المغلق والمحاصر يستدعي تساؤلات عن طبيعة تلك الكتابة واختياراتها، وعن علاقة المرأة المثقفة بالقيم والأفكار التي تحيط بها أو تتمثلها. فالمرأة حين تعي ذاتها تبدأ بطرح سؤال الكينونة: من أنا ومن أكون؟ وماذا بوسعي أن أنجز تعبيرا عن هذه الذات؟ انكشاف العالم غلاف رواية صبا طاهر على أي أرض ستقف شاعرة تطلق أسئلتها وقلقها، وتقترح شكلا جديدا لوجودها دون أن تتعرض للعقاب؟ وماذا ستفعل حين يقف العالم بما هو شبكة من المفاهيم والتقاليد والعلاقات وينكشف أمام عين المرأة وحساسيتها الشاعرة؟ تلك أسئلة وغيرها تقف حاضرة عند مقاربة نصوص صبا طاهر، تلك النصوص التي تعلن بدءا من العنوان وصفحة الغلاف -بما هما عتبات أولى- اختيار التمرد عبر الكتابة.. النفي الكلي المطلق «ما من يد على وجهي».. حيث اليد التي تمنع الرؤية وتكتم الصوت في مقابل البحث عن حرية الرؤية والكلام التي تتجلى في اختيار امرأة تمتطي طائرا وتحلق بجسد يتماهى مع جسده، ليصير الطيران فعل تمرد ومجاوزة رمزيين لكل القيود المحيطة. ويتأكد هذا مع النص الأول الذي جاء على شكل إهداء للعصافير الحرة رغم صغرها وضعفها (حلمت كثيرا / أن يكون لي جناحاك / وأغنياتك العظيمة / ولم يحدث أبدا). (أمامي الأرض كلها / ولا أستطيع أن أمشي / أكثر من عشر خطوات…) وهنا يبدأ وعي الذات بتناقضات العالم، ووعي الرغبة والحلم في مقابل العجز والاستحالة، إذ يظل الحلم مقيدا بالاستحالة والظلام (القيود الأسرية والثقافية والمجتمعية). تناقضات الذات تنطلق النصوص في مجملها من هذا الوعي بأزمة المرأة، وعي يمتزج بأسلوب غنائي ينطلق من الذات ويعود إليها، فتفيض النصوص بمفردات الأنا وما يحيل عليها، والتركيز على ضمير المتكلم المؤنث لطرح تناقضات الذات وتحولاتها من التمرد إلى الإحساس بالهزيمة من جهة، وإلى وعي الكتابة وأهميتها ودورها من جهة أخرى. الكتابة تهمة وجريمة لكنها فعل وجود في الوقت نفسه. عبر الكتابة تتحقق الذات وتطلق صرختها ووجعها وعوالمها المكبوتة والمحاصرة. تصير الكتابة فعلا بديلا ومعادلا للطيران، به تواجه الحصار (احضنيها تحت جناحيك / واتركيها هناك بعيدا / لبكاء الغيم الحزين)، فالكتابة محاصرة (أسمع الكلمات بوضوح / لكنها تطير كبقايا ورقة محترقة / إن ارتعش جفني). هي تجربة الأنا في مواجهة الذات والحياة والعالم، (ما أردت أن أكون غير بذرة / ترميها أمي مع شروق الشمس / لشهوة التراب / … / وقد تصبح شجرة / هكذا أريد أن يكون كلامي أيضا). وبين الإرادة والتحقق مسافة تعيها الكاتبة، ومن هنا تمتزج الرسائل / الكتابة / الكلام بكونها بذرة، شجرة، على جناح عصفور / على رؤوس الأشجار ..إلخ. وعي وقلق بين الحلم والواقع مسافة، فالذات تعي حصارها وحرمانها من حق الاختيار (أمي تريد أن أكون متدينة جدا / أبي يريدني أن أخطط للمستقبل / أخي يريدني أن أتزوج تحت سيطرته…)، (كنا أربعة: أمي النور، أبي الباب الكبير، أنا النافذة المخفية، إخوتي السور العالي)، (لا أعرف أي الجرائم ارتكبت / لتكون العبودية عقابا لي). هنا تصير الكتابة تهمة وجريمة (لو كان رأسي الطافح بالأفكار الفاسدة يتوسد رأسك الآن)، (أعرف أني أضع قدمي دوما في الطريق الخطأ / في الطريق الصعب / أفتح النوافذ لصوت الكلام والمطر الغريب)، (قالوا إنني المجنونة / قالوا مسحورة وبها مس). تعي الذات حصارها، حصار المجتمع ورفض الحب، مراقبة العالم خلف الأسوار، حصار الخوف، والعيش ضمن قيود مركبة: الجسد، الأسرة، العادات والتقاليد: (لأنني الابنة الكارثة المتمردة / الغاضبة مني دوما أمي / وإخوتي الأربعة / … / لا أثرثر مثل النساء / لا أجيد أعمال المطبخ، كي الملابس / … / كدت أُقتل مرتين / من أجل الحب والحرية). كتابة الشعر خطيئة كالحب والحلم (تسألين دائما، إن كنت أكتب الشعر؟ / فأكذب) والوعي بهذا يقود الذات إلى القلق والتمزق، وينتصب سؤال الكينونة صرخة قوية: (أنا، أنا، أنا… ماذا أريد؟) أشكال الإجابات هنا تتخذ الإجابة أشكالا متعددة أولها فعل الكتابة وممارسة حق الاختيار (كل ما خفت من فعله لأنه جريمة / تعاقب عليها العادات والتقاليد والأعراف / سأفعله ببساطة وكأنه ذهاب إلى النوم)، ويكون الحلم والكتابة شكلين للتمرد (كل ما أملك أن أتفيأ بظل الكلام / وأني سأظل أتبع شياطين قلبي الصغيرة / حتى النهاية)، (وانظر أيضا ص 98، 140، 141، وغيرها)، أو اختيار الأدوار غير التقليدية كالعاشقة الخائنة، والتمرد على النظرة الواحدية لجسد امرأة في صراع من أجل نظرة لا تفصل بين الروح والجسد، والنظر إليهما بوصفهما هوية إنسانية متكاملة، لكن الوعي هنا لا يكتمل كما لا يكتمل التمرد، إذ تظل الذات مشدودة إلى نظرة المجتمع إلى المرأة (لأنني وردة / فإنني أنتظر أبدا / القطف أو الذبول)، وتتماهى مع الإحساس بالضعف والخوف (لكنني انتبهت الآن / أني امرأة ضعيفة / أن قلبي ريشة سوداء في سماء الحزن / هشة أنا، وأحترق)، ويصير التمرد مجرد فكرة (تتلاشى الفكرة في / رعشة جفن / وأنام بقلب يحترق)، (قصائدك هي أنت / ماذا سأفعل بالكلمات؟ / إذا كنت أنادي العالم / من خلف الجدران ولا يسمعني؟)، أو تضطر إلى التمني والتمثيل والتظاهر والاستجابة لرغبات الآخرين (يجب أن تعرف الآن / أني ريشة / وأتظاهر أني الريح).. (وانظر ص 49، 60، 61، 74، 75، وغيرها). أو يتحول الغضب إلى قوة تدمير للذات ولوما لها (كائن مولع بتدمير ذاته / قلقة للغاية/ رقيقة ووحيدة / لكني أحرق كل ما يقترب مني / وحدها يد الظلام يحق لها أن تلمسني).