«هيئة الطرق»: مطبات السرعة على الطرق الرئيسية محظورة    هل اقتربت المواجهة بين روسيا و«الناتو»؟    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    الشاعر علي عكور: مؤسف أن يتصدَّر المشهد الأدبي الأقل قيمة !    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    ترمب يستعيد المفهوم الدبلوماسي القديم «السلام من خلال القوة»    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    أرصدة مشبوهة !    حلول ذكية لأزمة المواقف    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    فعل لا رد فعل    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    خبر سار للهلال بشأن سالم الدوسري    حالة مطرية على مناطق المملكة اعتباراً من يوم غدٍ الجمعة    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    عسير: إحباط تهريب (26) كغم من مادة الحشيش المخدر و (29100) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير القصيم يستقبل عدد من أعضاء مجلس الشورى ومنسوبي المؤسسة الخيرية لرعاية الأيتام    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    رسالة إنسانية    " لعبة الضوء والظل" ب 121 مليون دولار    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الغدير: تركت جامعة الملك سعود لأنني شعرت بضيق الأفق الأكاديمي ... و «النقاب» يثير الفزع من المحجوب
نشر في الحياة يوم 22 - 06 - 2010

عندما بلغت ال 16 من عمرها بدأت تتلمس طريقها.. وما أن لاحت لها فرصة الابتعاث للخارج... حتى خرجت كلها هناك.. منيرة الغدير أكاديمية سعودية لم تجد متنفساً لها هنا، ورفضت أن تستكين فرحلت لأميركا وهناك صنعت لها اسماً ورسماً، وأصبحت صوتاً تستمع له الآذان..
ولأنها من الصحراء وتسكنها امرأة بدوية أصبحت أكثر اشتعالاً وتمرداً، واقدر على تتبع الأثر واقتفائها.. بل وخدمت ثقافة الصحراء هناك أكثر.
تعبت كثيراً لتكون ما تريد واستطاعت أن تكون صوت الصحراء في الغرب، هي تخبر أنها ما كانت لتكون لو جلست هنا، وهي بذلك تضمن رسالة فحواها أننا قد نخدم أوطاننا وثقافتنا بعيداً عن حدودنا وأسوارنا..
الغربة صنعت لها منهجاً من خلاله نالت الجوائز واعتلت المناصب وصفق لها الكثير وهي خلف المنصات.. ووجدت وسطاً أكاديمياً وثقافياً يؤمن بها ويفتح لها الأبواب.
الدكتورة منيرة الغدير لم تكتب باللغة العربية منذ أكثر من عقد من الزمان، واختارات «الحياة» لتكون إطلالتها الأولى في الصحافة العربية بعد غياب طويل جدا ... فإلى تفصيل الحوار:
أنت لست امرأة الوجهات العادية... هل تعشقين السباحة ضد التيار؟
- لا أظن أننا نفكر مسبقاً بأن يكون ما نفعل ضد التيار، هي مسألة وعي ورؤية ما تجعل الفرد يتحمل عبء فكرته بعد أن يتبع بوصلتها. عندما أتأمل خياراتي وقراراتي الماضية، أرى أنها صعبة وليست معتادة بالنسبة إلى الآخرين، الرغبة في تحقيق أهداف أكاديمية - ثقافية - إبداعية جعلتني ارسم طرقاً جديدة وأحياناً كانت الطرق والمسارات واضحة وما فعلته هو أنني اتبعتها.
ذهابك عن البلد... أتُرينه سلبياً؟ وهل السلبية تحرض على مزيد من السلبية؟
- تمنح الغربة درساً قاسياً لا ينتهي لاكتشاف الذات والآخر وتجبر الإنسان بشكل لا واعي على خلق بدائل موقتة للوطن للغة وللأم وهي في ذات الوقت تعلن أنها سرقت أشياء كثيرة.
أكبر ما سرقت مني هو الشعور بالراحة، عندما تضع رأسك المتعب على وسادتك تجد الجاذبية متفقة مع روحك وتجذبك بانسياب ولكن في الغربة تشعر أنك مجرد غيمة تتلألأ في الفضاء. لا أرى الأشياء بمنظار السلبية وعكسها ولا أرى أن الرحيل عن الأوطان شيء سلبي (هو قرار فردي أحياناً وإجباري عندما يجد الإنسان نفسه مُبعداً عن وطنه).
حلمت بالسفر عندما كنت في ال 16 من عمري واخترته بعد ذلك بسنوات عدة ، وبعد انغماسي في البحث الأكاديمي والكتابة باللغة الأخرى، وجدت أنني أبتعد عن فضاءات العالم العربي، جذبني البحث وأسرتني اللغة الأخرى ووصلت إلى ضفاف أبعد مما لو بقيت في الرياض. أنا متقبلة لتجربتي بشكل عقلاني وأعي ماأخذت مني الغربة وما منحتني.
بعض النجاح المبكر قاتل... ماذا فعل بك النجاح في حال الغربة...وماذا فعل لك؟
- النجاح المبكر يحفز الرغبة في الاستمرار وجميل أن ننجح... لكن علاقتي بالمعرفة تتجدد... ولهذا يستمر الشغف والرغبة في تعلم الكثير. ما تسميه بالنجاح أربطه بالمعرفة.
اكتسبت الكثير من كوني امرأة الصحراء التي نافست الآخرين في مجال ضيق وشاق تركه الكثيرون في منتصف الطريق..
تمنح الأكاديمية الأميركية فضاء واسعاً ولكنها تفترس من لا يجيد مهارات العمل المنتظم والإنتاج المستمر الذي يتعرض لطرائق عدة من التقويم والاختبار. من ينجح في الغرب هو متجاوز لذاته ولدائرته الضيقة.
شعلة التمرد مهمة للغاية، متى ترين أن الإنسان يناضل من أجل حماقات؟
- سكنتني شعلة التمرد عندما كنت صغيرة لكنها تحولت إلى حالة تأمل وتفكير، نعم البعض يناضل من أجل حماقات وهذا ما نراه في الخطابات الفوقية السياسية والدينية، مرة قال الروائي جراهام جرين: يمكن أن يشن المرء حرباً سخيفة ضد الجمال والذكاء والنجاح.
هل أنت امرأة التطرف والحدود القصوى؟
- عندما اتأمل تجربتي ومساراتها أرى أنها تشبه إلى حد كبير قصة متخيلة لكنني تمنيتها هكذا بل رسمت مشاهداً كثيرة من فصولها بإتقان وتدخلت عوالم خارجية لصياغة البقية.
وإذا كنت المرأة الصحراوية التي أثبتت صوتها في الأكاديمية الأميركية وفهمت لغة الحوار مع الغرب.. فإنني أيضاً كنت أرى نفسي امرأة عربية باحثة تفتح نوافذ مشمسة على ثقافة وأدب العالم العربي وقراءته مع آداب ولغات أخرى.
العمل الأكاديمي في رأيك يغّير الحياة أم أنه يوقظها وحسب؟ وهل على الأكاديمي أن يزداد جلده سماكة جرّاء الهجوم عليه في ما لو أحدث حراكاً في وسط أدبي أو اجتماعي؟
- من يختار العمل الأكاديمي والبحث فلديه الكثير من القدرة على العمل المنتظم، وعلاقته بالآخر يقظة وقلقة ولذلك فهو في تساؤل مستمر وبحث عن معارف وقضايا جديدة... من يثير النقاش الفكري ويرمي بأحجاره الملونة في برك الماء الراكد يعي ذلك إلى حد ما ويعرف مسبقاً من سيعارضه وينقض أطروحاته.. ليست مسألة (جلد سميك) أو نفس لا يحتمل وإنما هي تمكن الباحث من نظريته وسياقاتها وقدرته على النقاش - الحوار - الجدل إن أراد.. وهذا ما يثري الأوساط الأكاديمية والثقافية ويحرض في (الجمهور) الرغبة على المتابعة والقراءة.
لماذا خرجت من جامعة الملك سعود... ما الذي أزعجك وجعلك تحملين عصا الترحال؟
- غادرت للدراسة لأنني شعرت بضيق الأفق الأكاديمي وكنت في حالة من القلق وشيء من الكآبة.. الغريب كما ذكرت أنني رسمت مساري وأنا ابنة ال 16 واقتفيت أثره كبدوية.
في ظل تطور برامج التعليم العالي في السعودية ... ما الذي تشعرين بأنه مغيب في ميدان التعليم العالي؟
- التعليم العالي يواجه عدة تحديات وذُهلت من الإحصاءات التي تشير إلى قلة فرص العمل بالنسبة إلى خريجي وخريجات الجامعات، وتقليدية البنى التحتية وعدم الثقة بالأستاذ الجامعي وتهميش العلوم الإنسانية والاجتماعية، فمثلاً مراكز الأبحاث المتعددة في السعودية ليس بينها مركز واحد للعلوم الإنسانية! فكيف سينتج المجتمع فكراً وثقافة تحليلية؟!
لكن مع كل هذا نحن أمام كيان يتحرك بسرعة والمنافسة ما بين المحلي والعالمي كبيرة جداً وليست في صالحنا حتى الآن.
قرأت حوارات عدة مع عدد كبير من الأكاديميين والإداريين المخضرمين في مجال التربية والتعليم ولاحظت تناقضاً بين: العدد الكبير من القدرات الأكاديمية التي تعمل بحرص وإخلاص وتمتلك الرؤية المستقبلية وتتفاعل مع البرامج التربوية والتعليم، وفي الوقت ذاته تتحدث هذه الكفاءات المؤهلة عن فشلٍ ما، عن سوء إدارة، عن بيروقراطية، وعن عدم بلورة وتمكين مشروع الإصلاح.
وهذا يجعلني أتساءل: هل المؤسسة التعليمية ضد نفسها وترفض الصيرورة والتحول بسبب نظمها وأجهزتها وبناها التحتية التقليدية وهيمنة البيروقراطية المرهقة التي نُسخت من دول عربية أخرى؟ أى هل أن المؤسسة التعليمية نفسها تقاوم التحديث؟ وهل بالإمكان تمكين مشروع الإصلاح والابتعاد عن «شخصنة» العراقيل في مسار التحديث، لأننا أمام بنى وسياق وأجهزة عتيقة؟
وأنا أنظر من خارج هذا كله أعتقد بأن هناك أملاً كبيراً في التغيير، وصناع القرار يعون التحديات ولديهم ثروة بشرية هائلة من الكفاءات والقدرات، التي إن منحت الثقة والدعم ستحدث نقلة نوعية في التعليم العالي في السعودية.
التعامل مع المبدع
كيف ترين تعامل مجتمعنا مع المبدع؟ وكيف ترين تباينه مع المجتمع الغربي؟
- والدتي دائماً تقول إن المجتمعات العربية لا تقدر الإبداع وأنا أتفق معها إلى حد ما، إنها مسألة ثقافة مؤسسات وإلا لماذا عندما يصاب مبدعونا بالمرض يبدأ الآخرون بالتوسل لكي ننظر إليهم بعطف؟
الغرب أيضاً لديه مشكلاته مع المبدعين.. فهناك مبدعون كادحون في الغرب، يموتون من الجوع أو العزلة لكن الفرق يكمن في عمل المؤسسات المتطور جداً واستقلاليتها التامة مادياً وفكرياً عن أي مصالح أخرى وهي ليست تحت تجارب خبراء مزيفين ليست لهم علاقة بأبسط دروس الثقافة والإبداع.
يمنح الغرب المبدع فضاء مفتوحاً ولكنه مقنن بتقاليد أدبية وأكاديمية لا تعرقل وتتهكم أو ترتاب من المبدع أو المفكر وترميه بالشك.
أيضاً الجامعات الكبرى لها تقاليد عريقة للاحتفاء بالإبداع وتشجيعه مهما بدا مغامراً، طموحاً وعالياً حتى السماء.
هناك سوء فهم بين الشرق والغرب، هل ترين الأمر قائما على الجهل التام؟ أم من رفض الآخر؟! أم أنه الشرق يعرف الغرب أكثر؟
- بدءاً ماذا نعني بهذين المصطلحين، وما هي دلالاتهما التاريخية والثقافية والسياسية؟ نُوقشت هذه التسميات مراراً ورُصد انزلاق مدلولاتها ولكنها ما زالت راسخة في أكثر من خطاب. كل ما ذكرته حاصل لكن لا أظن أن «الشرق» يعرف الخطاب المعرفي الغربي مطلقاً، يستشهد الكثيرون بجملة كيبلنج في (أنشودة الشرق والغرب) حين قال: «آه، الشرق شرق والغرب غرب - وهذان الاثنان لن يلتقيا».
يتذكر إدوارد سعيد هذه العبارة ويتساءل: هل بالإمكان (تقسيم الواقع الإنساني إلى ثقافات، تواريخ، عادات، مجتمعات وأجناس مختلفة جداً وتحمل النتائج بإنسانية بعيداً عن إثارة العداء المترتب على هذا الفصل ما بين «نحن» الغرب «وهم» الشرق؟)
لقد أسس خطاب الاستشراق أن الشرق والغرب عالمان متباينان، متضادان والنظرية ما بعد الكولونيالية كشفت إشكالات هذه العلاقة وحللت ارتباطها التاريخي والثقافي بالمعرفة والقوة والسيادة والعبودية.
لقد علمنا التاريخ الفلسفي والتاريخ الواقعي (الأفريقي الأميركي على وجه التحديد) بأن العبد يسعى بكل الطرق إلى الوصول إلى تخوم حريته ويبدأ بفكرة ثم يتدرج في رسم خريطة كاملة للهرب لتحقيق ذاته وحريته، بينما السيد المتعالي يظل أسير مأزق السلطة والسوط.
أتمنى أن نصل إلى إيجاد حوارات عقلانية بعيدة عن إلغاء الآخر وإقصائه إلا أن امتلاك الغرب للهيمنة السياسية والإمبريالية تجعل العلاقة موسومة بالصراع.
الانتماء والدهشة
من الطبيعي أن يتأثر الكاتب بما هو غريب عنه، بما لا ينتمي إلى ثقافته بدرجة أكبر مما يتأثر بإرث بلاده ولغته، لكن الكتاب الذين يغادرون بلادهم تحضر فيهم أرضهم بشكل أكبر وأقوى...كيف هو عندك مفهوم الانتماء؟
- المدهش، كما ذكرت، عندما ترحل إلى قارة بعيدة وتتناثر روحك على حافة المحيط أو في غابة خضراء أو تتساقط في مدينة يدفنها بياض الثلج لشهور طويلة، فإن هذه الروح تحن إلى صحراء، شمس، زعفران وأثر عربي، الكل يتفاعل مع منفاه وغربته بطريقته وبحسب تكوينه النفسي ومن ثم يبدأ إعادة صياغة مفهوم الهوية والانتماء.
في معظم الأحيان، المسافرون يتكسرون لهفة وتأسرهم أشياء في غاية البساطة بل قد تكون مهمشة ولم يفطنوا إليها في أوطانهم... من هنا تتمادى الذاكرة في استحضار واستنطاق الأمكنة والوجوه المنسية وزخرفتها بفتنة آسرة، فلا شيء يشيخ أو يتغير في ذاكرتي التي كانت تقودني إلى الصحراء بأعنة من شمس، إنها غواية اللغة والوطن ودائماً أتذكر «جيمس جويس» الغاضب على بلاده والذي يفتعل حالات غضب جديدة مع أيرلندا لكي يقترب منها ويكتب وهو في المنفى.
قرأنا لك في الشعر والقصة، أي عالم تشعرين بأنك تنتمين إليه أكثر من سواه؟
- كانت البدايات بسيطة ومتواضعة وبعد ذلك كتبت نصوصاً مسها الشعر وتمرد الصور المجازية. كل ما كتبت كان ضد القصة، الحبكة، الشخصية والسرد التقليدي ولم يفهم أحد هذا إلا الدكتور عبدالله الغذامى. حاورت النص السردي وأومأت إلى هشاشته وعدم قدرته على الوفاء بما يعد، لكنني توقفت عن الكتابة لسنوات طويلة، أخذتني اللغة الإنكليزية، وأجد نفسي في الكتابة النظرية، والآن لا استطيع الكتابة الأكاديمية باللغة العربية مثلاً... ربما انكسرت لغتي في الغربة لكنني في حالة عشق مع صورها ومفرداتها.. منذ ثلاثة أشهر فقط بدأت أجرب الكتابة بالعربية وأتخيل أن كتابة المقالة القصيرة جداً ممكنة بعد عودتي إلى العالم العربي.
احتفيت كثيراً بنساء البادية في الغرب.. لو مكثت في الشرق هل كانت ستكون هناك حفاوة منك لها؟
- مطلقاً.. قربتني الغربة من عالم مهمش كما ذكرت لم ألتفت إليه من قبل لأن ثقافتي كانت حداثية متعالية!
بعد 11 أيلول (سبتمبر).. ماذا تغير في بوصلة التفكير مع المثقف الأميركي؟
- كانت مرحلة صعبة جداً.. اختطف الصمت الحوارات التقدمية.. وبدأ بعض الأساتذة بالتراجع عن دورهم الرافض للحرب إلى مواقف محافظة، لفترة أصيب الفكر بتوجس وتردد ولم تكن هناك إلا أصوات قليلة تكلمت بنبرة تحليلية نقدية عن ال 11 من سبتمبر. كل ما أذكر أننا أصبحنا أقلية وغامرت حينها بتدريس نصوص لفلاسفة مثل «جان بودريار، جوديث بتلر، إدوارد سعيد وجيجاك وغيرهم» والتي أثارت الأسئلة حول كارثة سبتمبر وسياسة أميركا في العراق والشرق الأوسط، بعض طلابي رفضوا تلك النصوص لكنهم بدأوا يتقبلونها بعد سنتين من ذلك التاريخ.
كل الأعمال الأدبية العظيمة التي كتبت على مر التاريخ.. لم تستطع أن تحول من دون حدوث الوضع الكارثي في كل مجتمع.. إذاً من هو «المخلّص»؟
- هل مسؤولية الأدب أن يأتي بالخلاص؟ أم أن الخطاب الديني هو ما يدعو لذلك؟ «بلانشو» أحد فلاسفة القرن ال 20 كتب عن الكارثة وأتذكر مقولته وهو يؤكد على استقلالية «العرضي أو الحادثة الطارئة» ويقول: (بأننا على حافة الكارثة من دون أن نستطيع موضعتها في المستقبل لأنها دائماً وقبيل الآن في ماض سابق ومع ذلك نحن على حافة أو أمام تهديد قادم من المستقبل). هيروشيما، العبودية، المجازر الجماعية والكوارث الطبيعية تجعلنا نناقش قدرتنا على كتابة الكارثة ووصفها، فهي الصور الموصوفة مرات لكنها تظل منفلتة، متشظية، منسية وتلغي فوقية السؤال.. الكارثة لها علاقة بموت الآخر الذي يذكرني بموتي هذا جزء من رؤية بلانشو وفرويد وانشتاين حاولا فهم الحرب وهل بالإمكان تفاديها ومافعل الأدباء هو تخيل العنف ومحاولة رصد الكارثة.
القارئ لابد أن يجد في مايقرؤه نسخة عن الذي يعيشه، هل الإخلاص للواقع في الأدب يعد فضيلة؟
رواية الواقع ما هي إلا محاولة لكتابة حدث هو بطبيعته منفلت أو تاريخ انتهى وعصى على السرد والتسجيل. نتوهم أن الكتابة الواقعية هي اعتقال ما يحدث واقتراب من حقيقته، فمهما اشتغل الكاتب/الكاتبة بعناية تامة على السرد المتأني والوصف المتتبع لحركة الحدث ولزمانيته إلا أن ما يروى هو مجرد محاولة واحدة فقط لما حدث ويحدث؛ أي أن عيوناً أخرى قادرة على جلب شخصيات وتفاصيل مغايرة للسارد الأول؛ انه مجرد منظور واحد للعالم وهناك احتمالات متعددة وممكنه أيضاً.
الرواية العالمية الجديدة تتساءل عن الروي، اللغة ، الكتابة ، المعني والحدث الذي من الصعب تصويره أو توقعه أو التنبؤ به. لتأخذ مثالاً رائعاً فكك المفاهيم السائدة لرواية الواقع والتاريخ وهي الروائية الجزائرية آسيا جبار التي تكتب بالفرنسية وهي أستاذة التاريخ المتمرسة. أحد همومها هو احتلال الجزائر وتاريخها الذي طُمس أو تشظى ولم يبق إلا شوارد ومقتطفات داخل الرصد الفرنسي.
قدمت في روايتها «الحب، الفنتازيا» مشروعاً جمالياً ونظرياً لكتابة التاريخ وانقسام الرواية وتلاقحها مع أجناس أخرى مثل التاريخ، السينما، السيرة ، الرسم والروي الشفاهي.
أثارت آسيا جبار أسئلة شائكة عن علاقة هذه الأجناس مع بعضها وتلاقيها وافتراقها.
انقسمت روايتها إلى فصول، والفصول إلى أجزاء والأخيرة إلى مشاهد شعرية كانت تلبس فيها ثوب الحداد وتغني أناشيد الموت.
رواية (الحب، الفنتازيا) تعقد فهمنا للراوية التاريخية الواقعية فالكاتبة انتقلت من سرد مشاهد من سيرة الطفولة إلى قراءة ما كتب عن الجزائر في لحظة احتلالها في حزيران (يونيو) 1830، ثم انتقلت لجمع وترجمة الحكايا الشفهية للنساء الجزائريات وفي كل هذا طعمت نصها بمقاطع مما كتبه الفرنسيون عن وصف الاحتلال.
وكما نعرف في كل حملة استعمارية يجلب المحتل معه جيشاً آخر لرصد الحرب: النُساخ، المصورين، الصحافيين، الكتاب، الأكاديميين وغيرهم. لذا اعترفت آسيا جبار بأنها أمام (أهرامات) من النصوص والروايات التي أخفت الجزائر الأخرى، وطمست معاناة المستعمر الجزائري ولم تتساءل عن الكارثة، العنف وإبادة الجزائريين في مدن وبلدات وكهوف في الجبال الوعرة.
رصدت آسيا جبار مشاهدَ حاسمة وتساءلت عن المحو والإزالة وأعادت الحياة لما حدث وما كان وردمت بنات خيالها الصدع في النص التاريخي واستحضرت تفاصيل ما غُيب، كتبت كثيراً عن هذا وناقشته مع نصوص الروائية الأفريقية توني مورسن التي استدعت روح تاريخها الغائب بسبب عنف العبودية والهجرة القسرية والنسيان، لكن آسيا جبار سلطت الضوء على كيفية الانهيار والإخفاق في النص المكتوب من الفرنسي المستعمر وكيف أن مشاهد الاحتلال - العنف - التراجيديا شبعت وتماثلت مع استعراض البالية والمشاهد التراجيدية الأوبرالية. فكان سقوط مدينة الجزائر مشهداً في أوبرا مصحوباً بموسيقى غربية مما خلق تطابقاً ما بين لحظة عنف الاستعمار - المشهد التراجيدي وجماليات الثقافية الغربية، هذا نقاش طويل لكنني أحببت أن أثير مثالاً عن افتراضية الإخلاص للواقع وعدم قدرة اللغة على رصد ما يحدث وكشفه لنيل غبطة القارئ الذي قد يتهيأ لالتهام نص جلب الحقيقة معه.
هذا العالم الرقمي والحياة التقنية التي تلف بنا الآن.. هل تدق جرس الإنذار لانفجار هوية الإنسان؟
- الهوية تشظت من زمن والثقافة التقنية ما هي إلا تجسيد لهذا التشظي وإن حاولت شبك الروابط ما بين الجزئيات.. إن النص التقني ينفي بدايته وأصله الأول ويتمادى في الارتحال والتوغل في لا نهائية التداعي والسرد.. وإن كانت الشبكة التقنية تخلق فضاء ديموقراطياً على تويتر، فيس بوك، جوجل وغيرها من الإعلام الاجتماعي إلا أن هيمنة عدسة جاحظة تراقبنا أو إنها توهمنا بذلك حاضرة في كل هذا.
أنت شرقية أقمت زمناً في الغرب.. الانقسام بين هذين العالمين كيف هو أثره في شخصيتك.. ورؤيتك لذاتك؟
- يصيب الانقسام كل من لا يتأمل ويتعامل بوعي محترس مع الثقافتين وازدواجية اللغة، صور الأدب هذا الانقسام، الدوار، قلق الغرابة أمام الآخر الغريب منذ هومر وشكسبير ولورنس العرب وألف ليلة وليلة والرواية العربية في منتصف القرن الماضي.
يحضرني في هذه اللحظة مشهد من رواية «بيرة في نادي البليارد» لوجيه غالي.. الذي مات منتحراً والذي يصور بطل الرواية رام وهو يهم بالخروج بعد زيارة عائلة إنكليزية في لندن، بدأ يرتدي معطفه ببطء واجتاحه شعور قوي بالانقسام - الانشقاق وكانت المرة الأولى التي يشعر فيها بأنه ينفصم إلى جزأين أحدهما يتفاعل مع الحدث والآخر يراقب ويحكم.
صور «وجيه غالي» كما لو أن المعطف يضم توأمين انقسما في لحظة مواجهة الآخر.. ما أردت قوله أن هذه المواجهة - المقابلة - الاقتراب من الآخر قد تفقد التوازن لأن الأنا تخشى أن تلتهم ولذلك اعتقد أن كلاً منا يركض بمساعدة لا وعيه على جمع ذاته تحت معطف آلفة عتيقة - غريبة في آن واحد.
إنها لحظة فقد هو أيضاً تحاول فيها الأنا التمسك بالمفقود - الوطن - الماضي ولا تستطيع إلا بالإمساك بأجزاء تشبه أو تتشبه به الفنتازيا ترمم حدادنا ولو لبرهات.
هذا ما حدث عندما استحضرت الصحراء، الشعر، البدو... كنت أرمم الغياب وإنكاري للفقد ومغادرة الصحراء.
الحجاب والسياق الثقافي
ما موقفك من قضية الحجاب.. بل ومنع النقاب المثارة الآن في فرنسا.. هل ترين في الحجاب رقابة غير مقبولة؟
- هذا مأزق، لا بد من قراءة ما يحدث في السياق التاريخي والسياسي وربطه بأمثلة ثقافية أخرى.. باختصار من دون قراءة هذه العلائق لن نفهم الرغبة في إقصاء وإلغاء المرأة المنقبة.
أيضاً لابد أن نعرف أن هذه الزوبعة جزء من هوس غربي وجزء من صياغة الخطاب الاستشراقي الجديد الذي ما زال يكرر ثنائية الشرق - المرأة، المستعمر الذي يشبه المرأة بضعف أنوثته، الشرق المستتر الغامض الذي يتراءى من خلال أردية ذات طيات فاتنة، مقلقة لأنها لا تكشف المعنى، الفهم، الحقيقة لنستدعي لوحة الرسام الفرنسي لاكروا «النساء الجزائريات في مكانهن الحميم» والتي هي شاهد على الرغبة في الفضح والكشف والوصول إلى الآخر الجزائري الذي تشكل عالماً أنثوياً في مخيلة الفنان الفرنسي. شاهد آخر هو أعداد الصور الفوتوغرافية التي التقطت في الثلاثينات من القرن ال 20 أثناء الاحتلال الفرنسي للجزائر والتي جمعها مالك علولا وكتب مقالة تحليلية (مستوحياً أسئلة النظرية الفرنسية وبخاصة من رولان بارت).
وكشف العلاقة العنفية ما بين المصور الفرنسي المتواطئ مع سياق استعماري بموضعه المرأة الجزائرية في صور نمطية... لقد جعلها المصور الفرنسي أسيرة لسلطة الرجل العربي، تنظر من وراء القضبان، كشف جسدها وجعلها تشرد في غيبوبة وهي تدخن.. هي مجرد أنثى كسولة، تضيع الوقت وتلهو في المتعة.
أشار مالك علولا إلى أن الفرنسي أراد الانتصار على الجزائري من خلال انتهاك جسد المرأة واختراقه وهذه هي الهزيمة الحقيقية. هذه هي المرة الأولى التي أجيب على سؤال عن النقاب والمرأة العربية المحجبة ولابد ان نفهم أن النقاب يثير قلق الغرابة والفزع من المحجوب وبالتالي لابد من ان يُقصى.
كيف ترين مؤسسة الزواج... وهل ترين الزواج القيام بمساومات، أو إتقان لعبة السيطرة؟ والزواج بين المثقفين لماذا مصيره الفشل غالبا؟
- تصيبني الدهشة من قدرة الآخرين على تحمله.!
وازدواجية المثقف تجعله يتعامل مع المرأة كما لو أنها جاذبة وحق مشاع وخطاب الحداثة شاهد على إقصاء المرأة وتشيئتها.
اللغة الأم مرتبطة حتماً بالأم كما تدل لفظتها... كيف يمكن أن تصفي أمك؟ هل يصدف أن تصدري عنها سيرة ذاتية؟ وهل كان لحضور الأم عندك الصوت الأعظم في تشكيل ما أنت عليه؟!
- الأم والبحر يتشابهان في نطق الكلمة باللغة الفرنسية حتى في ابتعادي عن لغتي الأم اقتربت منها في أبحاثي ولو استطعت وصف أمي لكتبت سيرتها. أمي التي لا تعرف الكتابة تحاورني في قراءاتي للشعر وتفسير مفرداته، وتناقش معنا القضايا الاجتماعية والسياسية فهي مثقفة وواعية وتحلل ما تراه في بيئتها النجدية. كنت اسمع ضحكها الخفيف وحفيف أثوابها في أعمق لحظات العزلة والبعد، وكانت تتهيأ لي في المقهى، المكتبة، الباص، كما لو أنها عبرت بشكل خاطف أفزعني غيابها وغيابي عنها ولازمني صوتها وكان يرن لتسمعه الغرف والذاكرة المواربة.
ماذا بعد محطة قطر في مشوارك؟
- أميركا ربما بعد أعوام!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.