نوال السعداوي ابنة الثمانين سنةً. لم تتعب، ولم تتغيَّر. قامتها الشاهقة انحنت قليلاً. لكن صوتها الهادر لا يزال على عهده شرساً في انتقاد الواقع العربي المعطوب، وفي الرهان على حتمية التغيير الجذري. لا تزال نوال على صلابتها متوقّدة، شجاعة ومشاكسة في دفاعها عن الذّات المؤنَّثة وضرورة إنصافها ليستقيم أمر الحقّ والعدالة، ويرتاح العالم. صاحبة «الأنثى هي الأصل» التي لم يكفّها الترهيب والتهويل عن الإمعان في انتهاك المسلَّمات واختراق التابوهات، ولا أوهنت عزمها المواجهات الصعبة، لا تؤمن بالثنائيات ولا بمنطق التكامل. الثنائيات، في إيمانها، كذبة مخترعة، والتكامل اعتراف بنقصان الذَّات المفردة، لرجل كانت أم لامرأة. عن الآخر تقول: «الآخر هو الذَّات. يتَّحدان أو يتوحدان في الإبداع الذي يحيل الذَّات إلى جوهر، ينبني وجوده على ذاته لا على غيره، فالإبداع في نظرها يجلي عظمة الذات التي تتعظَّم بإبداعها»، على ما تعبِّر حرفياً. هنا حوار معها: أنتِ صاحبة تاريخ نضالي نسوي طويل يزيد على الستين سنةً، استشرست خلاله في الدفاع عن قضايا المؤنث المقهور في كلِّ المجالات، وعلى مختلف المستويات. ثمَّة من يرمي تاريخك هذا بالأصولية النسويّة، ويتَّهمك بالراديكالية المتطرِّفة في معاداة الذكورة والانحياز المطلق إلى الأنوثة، بمَ تجيبين؟ - (تصمت قليلاً وتبتسم بوداعة). أجيب ببساطة أنَّ هؤلاء جميعاً لم يقرأوا كتبي. في ظلِّ التحوُّلات والتغيُّرات المستجدة اليوم على وضع المرأة العربيَّة، هل لا يزال الخطاب الثقافي الذكوري السائد، على حاله من السلبية والازدواجية حيال المرأة؟ وماذا عن المرأة الكاتبة؟ هل ما زالت كتاباتها أسيرة الواقع أم أنها نجحت في اختراق مراكز القرار؟ - المثقَّف الحقيقي ينسجم، أو يحاول الانسجام مع نفسه ومع قناعاته. لكن المثقفين الحقيقيين قلَّة للأسف. التحوُّلات التي تشيرين إليها غيَّرت المرأة وزادتها وعياً لذاتها ولحقوقها. المرأة الكاتبة نجحت إلى حدّ ما في إثبات حضورها. لا سيما من اجترأت على تخطي الحواجز والتابوهات. أنا شخصياً بادرت إلى هذا في حياتي وفي كتبي. كسرتُ التابوهات التاريخية والسياسية والعقائدية سواء في أعمالي الأدبية أو الفكرية. المشكلة هي في طغيان الردَّة الأصولية التي تهدف إلى إعادة المرأة إلى القرون الوسطى. هناك أيضاً قوى، يمين أو يسار أو حكومات. لا فرق بينها في محاولة دفن المرأة. يحاربونني ويحاولون دفني ككاتبة، يتجاهلون أعمالي الإبداعية، يتهمونني بالأيديولوجية. وضع المرأة صعب. وهناك تحيُّز خطير ضدَّها، لا سيما في السنوات الأخيرة. أعطيكِ مثلاً: نوال السعداوي لم ينصفها أحدٌ على الإطلاق. نُقَّاد الأدب كلُّهم تواطأوا على إهمالي وتجاهلي. لكني أؤكد لكِ أني سأنصَف. ولو بعد أربعمئة سنة. سيحصل لي ما حصل لغاليلو، حينما اعتذرت له الكنيسة بعد أربعمئة سنة. ماذا تسمين هذا؟ عدالة؟ إنها عدالة متأخرة. أو هي استدراك أخلاقي... ماذا تعني لكِ القيم الأخلاقية؟ هل هي قيم ثابتة غير قابلة للتحوُّل، أم إنَّ بعضها ينبغي أن يُعاد النظر فيه؟ - لا وجود لشيء محكوم بالثبات. حتى الطبيعة البشرية متحوِّلة. كلُّ شيء يتغيَّر بما في ذلك القيم الأخلاقية. لكن، هناك مبادئ إنسانية مطلقة مثل الصدق، الحريَّة، العدالة، الحقّ، الوفاء بالعهد، الأمانة. هذه قيم ثابتة ومطلقة. هناك المطلق والنسبي. من المثير للسخرية والغضب أن باسم النسبيَّة تتم محاولات تمرير وتسويع الفساد الأخلاقي: الخيانات، الكذب، الغدر، الانتهازية والوصولية، الطعنات في الظهر. كلُّ ذلك يُرتكب باسم النسبيَّة والحريَّة. الحريَّة هي قرين المسؤولية. هما وجهان لعملة واحدة. من دون المسؤولية تنتفي الحرية ومعها الأخلاق والقيم. مثلاً حينما تعتدي القوةُ، والقوَّة هي التي تحكم واقعنا وليس العدل، هل نسوِّغ القوة بالنسبيَّة أو الحرية؟ هذه إسرائيل تعتدي على الشعب الفلسطيني ويُمرّر هذا الاعتداء باسم الدفاع عن الحريَّة. مثال آخر: الزوج الذي يُطلِّق زوجته بعد خمسة وأربعين سنةً من الحياة المشتركة من أجل امرأة تصغره بخمسين سنةً، يفعل ذلك من دون حياء ولا مسؤولية. هذه مهزلة الحريَّة والأخلاق والمسؤولية. على ذكر المسؤولية، تجاهرين دائماً في كتاباتك ومشافهاتك بإدانتك كلَّ المؤسَّسات الأبويَّة المنحازة إلى الذكورة. أليس الزواج واحدة منها على مستوى النسب في الحدِّ الأدنى؟ - دخلتها وخرجتُ منها، بعدما تأكدَّت أنها مؤسسة أبويَّة، ذكوريَّة من الطبقة الأولى. رفضت بإطلاق الازدواجية الأخلاقية، رفضي قانونَ الزواج نفسه، هو قانون لا علاقة له بالعدل من قريب أو بعيد، مثله مثل قانون النسب. اختبرتُ الزواج كتجربة. وكان لا بدَّ لي أن أخوض التجربة حتى نهايتها. هذه صفة المبدع. أن يخوض التجربة وأن يقع في الخطأ، ولم أستمر فيه لأن الاستمرار هو الخطأ الذي لا شفاعة فيه. في نصوصك الروائية تحديداً، وهي في الواقع متطابقة مع نصوصك النظريّة، قلما نقع على بطل رجل سويِّ وعادل، أو متكافئ انسانياً مع الأنثى المرأة. هناك حضور طاغٍ للأنثى الضحية في موازاة الذَّكر الجلاد. كأنك تشقّين الأرض نصفين بين ذكورة تعتدي دائماً، وأنوثة يُعتدى عليها بصورة دائمة. وفي الحياة الواقعية ما ينفي هذا التعميم. هل هو الغضب، أم الانتقام، أم الانقلاب، أم الاحتجاج أم كلّ ذلك مجتمعاً تُشهرينه في مواجهة الهيمنة الذكورية السائدة لاسترداد الأنثوية؟ - هذا إلى حدٍّ ما غير صحيح. في رواياتي شخصيات للرجل إنسانيَّة جداً. الرجل إنسان، وإنسان راقٍ من الدرجة الأولى. لو فرزنا رواياتي وأعدنا قراءتها لوجدنا نماذج رجالية نادرة في تحرُّرها من الذكورة والأبويَّة، نادرة في العالم كله. أنا أرفض هذا الحكم غير المنصف، لأنَّ في نصوصي الروائية نماذج من النساء لا تملك ذرَّة من الإنسانية. على كلِّ حال، هذا يتوقف على الرواية ،صحيح أنَّ غضبي، أو غضب شخصياتي النسائية الناقمة على النظام الأبوي، الطبقي حاضرٌ في رواياتي، لا سيَّما الفقيرات منهن. هذا طبيعي لأن الفقر يورثهنَّ العبودية بصورة مرعبة. بالنسبة اليَّ، أنا امرأة هادئة، ولستُ غاضبة. أتقي شرَّ الحليم. أنا حليمة لكن غضبي، إذا غضبتُ لأسباب موجبة يتحوَّل إلى إعصار. وبصفتي طبيبة نفسية، أحوِّل غضبي إلى إبداع دفاعاً عن صحتي النفسيَّة، يصير غضباً ايجابياً لا سلبياً. حين يتحول الغضب إلى الخارج يُبدع الغاضب، لكن حينما يبقى مكتوماً من الداخل، يورث الغضب صاحبه أمراضاً نفسية، بل يحطّمه ويُفسد إنسانيته. «زينة» والنقد الأدبي في روايتك الأخيرة «زينة»، تشنّين بلسان البطلة حرباً قاسية على النقد الأدبي، تميزين الكتابة الإبداعية منه، وتُصنّفينه في مرتبة أدنى فيها. ألستِ تنزلقين إلى المفاضلة في ما لا تجوز فيه المفاضلة؟ ألستِ تجحفين بحقّ النقد والنقَّاد: تنعتينهم بالغيرة والحسد والعيِّ الإبداعي وهم الذين حبَّروا في الكتابة عن مؤلَّفاتك كماً كبيراً من الكتب والدراسات والمقالات؟ - في الشق الأول من السؤال. تتناول الروايةُ شخصيةً رئيسيَّة، هي أستاذة في النقد الأدبي. وهي التي توجّه النَّقد لنفسها، لأنها كانت تحلم بأن تكون روائية وفشلتْ. ثم إنَّ ما جاء على لسان البطلة الناقدة، ليس بالضرورة أن يكون رأي المؤلفة، أي رأيي الشخصي. أنا لا أرى كلَّ الرجال فاسدين. في حين أنَّ بطلة رواية «امرأة عند نقطة الصفر» تصفهم جميعاً بالفساد. لشخصياتي الروائية الحريَّة والحقَّ في أن تتحدَّث عن نفسها، بل أن تقول رأيها الذي قد يخالف أحياناً رأيي. ثانياً، النقد الأدبي يعيش، في الواقع، محنة فعليّة. هو نقدٌ منحاز، لم ينصف مرَّة كاتبة راديكاليّة مثلي. لطالما كان هناك أحكام متسرِّعة بحق أعمالي الأدبية من قبل النقاد. ثم إنَّ محنة النقد الأدبي جزء من محنة الإبداع، ومن محنة الحريَّة، ومن مشكلة الفكر الذكوري الأبوي. المفارقة أن بعض الناقدات من الفساد يتقمَّصن عقل الرجل في الحكم على أعمالي. هذا ما تفرزه الهيمنة الذكورية في مجتمع أبوي منحاز ضدَّ النساء حتى المستلبات منهنَّ. هل ترين في الأنوثة والذكورة ثنائية تكامل بين مختلفين، على قاعدة الندِّية والسوية الإنسانيَّة. أم لك رأي آخر؟ - طبعاً لي رأي آخر. هل تعلمين من أين جاءت فكرة الذكورة والأنوثة؟ يحدّثنا التاريخ القديم عن نشوء النظام الطبقي الأبوي، أو النظام العبودي الذي أسَّس لهذه الفكرة، حيث يُنظر إلى المرأة بصفتها جسداً ينقصه الرأس (يعني أن المرأة مقطوعة الرأس)، زوجها هو رأسها. تبقى المرأة ناقصة حتى تتزوج. حينها تصبح كاملة لأن زوجها هو رأسها، أي عقلها. هذا هو الأساس الفكري الفلسفي العقائدي للنظام الأبوي الطبقي الذي انعكس في الأديان والعقائد. يقول الكتاب المقدّس إن الله رأس الرجل والرجل رأس المرأة. من هنا جاءت فكرة التكامل والثنائية: المرأة يكمِّلها الرجل، لكنه كامل من دونها. هذا سائد حتى اليوم، ومنعكس في القوانين والثقافة والاجتماع والتربية والتعليم. أنا أعارض فكرة التكامل، وأؤمن أنَّ المرأة إنسان كامل قائم بذاته ولذاته، فهي لا تعيش من أجل الرجل، كما أنه لا يعيش من أجلها. هل تمارسين الرقابة على نفسك بالمعنى القمعيّ. أي تطاوعين الرقيب أو الشرطي الذي يقبع في داخلك أحياناً يمنعك من الإدلاء بمواقف صريحة وجريئة، أو القيام بأفعال ذات حساسية مُحرجة تمسّ بالقيم السائدة اجتماعياً أو أخلاقياً؟ - أقيم حواراً دائماً بيني وبين نفسي العميقة، أو ما تسمِّينه الشرطي الأخلاقي الكامن فيّ، وجوده طبيعي فينا جميعاً، نتيجة التربية الكابتة والمقيِّدة لكن، هناك أيضاً نوال الحقيقية. الصوت العميق لنوال الحقيقية، ولنوال الطفلة المتمرِّدة التي تنتصر على هذا الشرطي في معظم الكتابات. الكتابات التي ينتصر فيها الشرطي أحتفظ بها لنفسي ولا أنشرها. أُبقيها في المطبخ السرِّي. الكلمة المكتوبة هي عندي صدق مُطلق، لا يمكنني التنازل عنها بأي ثمن. قد أتنازل في مطارح أخرى، لكن في الكتابة هذا أمر مستحيل. لذلك دفعتُ الثمن غالياً في حياتي الخاصة والعامة. أجمل انتصاراتي على الشرطي الرقيب هي كتاباتي الصادقة. تقولين في إحدى مقالاتك: «أكتب ما أعيش، وأعيش ما أكتب». كيف لكِ أن تجزمي بمثل هذا التناغم أو التماثل المستحيل بين الكتابة والحياة. ففي الكتابة الروائية بصورة خاصة، ثمة تخالط بين الوعي واللاوعي. بمعنى أن للعقل الباطن قدرة على المراوغة في التسلل إلى ما نكتب، بحيث يستحيل على الكاتب الإمساك بلا وعيه والسيطرة عليه بالكامل لحظة الكتابة. فكيف تفعلين؟ - هذه نظرية فرويد. ليس فرويد وحده. بل يونغ، ولاكان، ودريدا، وجان جاك لوسركل، وآخرون. عمل الوعي واللاوعي أساس في كل تحليل نفسي. وفي ما تنطوي عليه الكتابة الإبداعية جزءٌ من لاوعي المبدع. - صحيح. يجتمع في كلّ منّا الوعي واللاوعي. لكن العملية الإبداعية لا تتمُّ إلا بتحول اللاوعي إلى وعي، حينما يتحوَّل الخفيُّ إلى ظاهر. أنا أسميه الوعي الأعلى. الإبداع إذاً، ينبع من الوعي الأعلى لا من الوعي السفلي. وهذا اختلاف جوهري. حين أقول إنني أكتب ما أعيش وأعيش ما أكتب، أقصدُ أنني قاومت طوال عمري، طوال ثمانين سنةً، الازدواجية داخلي. ما أقوله في غرفة النوم خاصتي أكتبه. وما أفكِّر به في عقلي الباطن المراوغ يتحوَّل بإرادتي وبغير إرادتي إلى وعي وإدراك وإبداع. الإبداع ينبع من المعرفة وليس من المراوغة. قد تبدو فكرة كتابة الحياة وعيش الكتابة مثالية ومستحيلة، لكني أجدها صعبة وليست مستحيلة. أنا لا أؤمن بالمستحيلات. وبإمكاني أن أدرك لاوعي لحظة الكتابة وما بعدها أيضاً. من هنا لذَّة الإبداع التي هي لذَّة الاكتشاف، اكتشاف هذا اللاوعي، هذه المنطقة المجهولة. العام والخاص يلحُّ علي سؤال يتعلَّق بالشخصي الحميمي. أتردَّدُ في طرحه ومع ذلك سأفعل. هل تسمحين؟ - تفضلي. العام والخاص عندي منكشفان ومتتامَّان. الإبداع يُلغي الفاصل بينهما بمثل ما يلغي الفاصل بين الأنا والآخر، والذات والموضوع، والمادي واللامادي، هذا هو الإبداع يُسقط الفواصل الموروثة والثنائيات المخترعة بما في ذلك ثنائية الأنوثة والذكورة. كيف يلتغي الفاصل بين الذَّات والموضوع في كتابة المؤنَّث الذي لا يحضر إلا كموضوع حتى حين يكتب نفسه. ألم يُكرَّس المؤنَّث موضوعاً في الاجتماع والثقافة والفكر واللغة أيضاً؟ - الإبداع يلغي تاريخ العبوديَّة في عقل المرأة نفسها. حين أُبدع أشعر. بذاتي. أشعر أنّني موجودة لذاتي وليس للآخرين. أين يصبح الآخر إذاً؟ - الآخر يصبح هو الذات. يلتحم الآخر والذات في الإبداع الذي هو مثل الحب، الحب الحقيقي. حينها يصبح الاثنان ذاتاً واحدة، ولا يعود هناك وجود للغاية والوسيلة. غاية الإبداع هي الإبداع، ليس الإبداع وسيلة هو مثل الذات التي غايتها الذات. أنتِ تتحدَّثين عن عالم آخر غير عالم الواقع، عالم مرتاح ومُرفَّه يتوسَّل الإبداع بذاته ولذاته وعالمنا المسكين الغارق في فقره وبؤسه وخرابه وافتقاره إلى حضور الآخر بكلِّ أطيافه يحتاج إلى إبداع روائي يتوسَّله المُبدع ليحلم بالتغيير... - هذه مأساتي. تغيير العالم حلمي. حلمي بأن يصبح الإبداع أو القدرة الإبداعية قادرة على إلغاء الفواصل والثنائيات والازدواجيات والعبودية حلمي أن يمحو الإبداع العبودية من عقل ووجدان وجسد الإنسان، رجلاً كان أو امرأة. هذا حلم خطير دفعت ثمنه حياتي وثلاث زيجات. الكذب هو الأخطر أعود إلى السؤال الشخصي: واقعة الطلاق بينك وبين زوجك الثالث أثارت وتثير لغطاً واسعاً. ثمة من لا تقنعه ذريعة الخيانة والكذب، على ما تتَّهمين به طليقك بعد زواج موفَّق، كما كان يبدو للجميع، واستمر نحو نصف قرن. بصرف النظر عن أسباب أخرى ربما تتحفَّظين عليها، أسألك أيُّهما الأكثر إيلاماً وإيذاء بالنسبة إليك: الكذب أم الخيانة التي يعتبرها بعض الناس وجهة نظر؟ - الكذب أخطر من كل شيء. بما في ذلك الخيانة، سواء في الحياة الخاصة أو العامة، كذلك في الكتابة. حين تعيشين مع إنسان يكذب عليك، يقول لك مثلاً إنه مرتبط بلقاء سياسي ثم يذهب إلى عشيقته. ويتكرر ذلك أكثر من مرة بل مرات لا تحصى. بماذا تشعرين؟ بالغضب، بالرفض، بالاستنكار؟ لا، فالأمر يتجاوز حدود هذه المشاعر. بكلمة واحدة، تشعرين أنك تعيشين مع رجل كاذب، مريض بالكذب. تكرَّر كذبه وتسامحتُ عدة مرات من أجل الأسرة والأولاد، ومن أجله أيضاً أردتُ أن أحفظه وأصونه من ألسنة السوء. حين تزوجت شريف تعاهدنا على الصدق. قلنا: إذا انتهى الحبُّ، واستنزفت العلاقة نفسها نفترق ونبقى أصدقاء، نطلّق ونبقى أصدقاء. ليس للزواج أن يكون غطاء ولا داعٍ للكذب. هو كذب على امتداد سنوات ولم يلتزم بالصدق. تنازلتُ كثيراً من أجل الأسرة والأولاد، لكنه في المرَّة الأخيرة تجاوز كلَّ الحدود. أراد أن يجمع بيني وبين عشيقته، يعني أن يعيدني إلى عصر الجواري. هذا أمر مهين وغير مقبول. تمَّ انفصالنا من ثلاث سنوات. منذ ذلك الحين وهو يعيش في شقة منفصلة. لكنه غدر بي حين أعلن في الصحف قصة طلاقنا وهذا ما اتفقنا على عدم إعلانه. هذا نوع من الغدر، من الانتقام. ماذا تعنين بالانتقام؟ - أراد أن يثأر منّي، لأني رفضتُ الحياة معه تحت سقف واحد. أنا لا أحتمل العيش في الكذب. الموضوع لا علاقة له بوجود امرأة أخرى. مشكلتي ليست في هذا بل في الكذب. بعض النساء الغبيّات يصورن أن الغيرة وراء كلَّ ما حصل. منهن من قالت: نوال المرأة انتصرت على نوال المفكِّرة. هذه لغة أنثوية غبيَّة تُقلّد لغة الذكورة الموروثة، لا شفاء منها بالثقافة ولا بالماركسية ولا بالقومية ولا بأي انتماء عقائدي. هل تعتقدين بذبول الرغبة بالآخر المختلف حين يذبل الجسد؟ - أبداً. الرغبة حقّ انساني مثل الحقّ بالحياة. ابتذالها فقط بإعلائها على مبدأ الحرية المسؤولة هو ما يجعلها متهومة ومُستنكرة. سؤالي الأخير: راكمتِ إنتاجاً نوعياً غزيراً في قضايا المرأة، بحثياً وروائياً وفي أجناس أدبية أخرى. الآن وقد بلغتِ الثمانين (لك العمر الطويل)، هل تعتقدين أنك كتبتِ كلَّ ما تودَّين كتابته، أم إنك راغبة في إضافة المزيد مما لم تكتبيه بعد؟ - أقول لكِ صادقة إنّي لم أكتب سوى القليل ممَّا يعتمل في داخلي، وممّا أريد كتابته. مع كلِّ كتاب أعتقد أنَّه سيكون الأخير. لكن الرغبة بالكتابة تعاودني من جديد فأشرع في كتاب آخر. صدقيني، ليس من السهولة أبداً إخراج ما في البئر. بئر الإبداع عميق، عميق، كلما أطلعنا منه الماء يعود ويفيض، يفيض، ويفيض.