في كاميرا خفية بريطانية، استلقى ممثل البرنامج على مقعد انتظار في الشارع، مثَّل الشاب دور النائم، ممسكاً بإهمال عملة ورقية نقدية فئة «خمسين جنيه إسترليني»، بشكل مغرٍ للمارة، المثير في الأمر أن أغلب أولئك المارة سحبوا الورقة النقدية وهربوا مسرعين، وهم غالباً يَبْدون مهندمين رجالاً وسيدات ومراهقين. لم أشاهد في تلك الحلقة سوى رجل أنيق يرتدي معطفاً طويلاً، سحب الورقة النقدية ولم يهرب بها، بل وضعها في جيب النائم ومشى رافعاً رأسه كرجل نزيه، هذا مشهد صريح للمثل الشعبي الذي يقول «المال السايب يعلم السرقة». وكذا الأخلاق بلا نظام وقوانين رادعة. من زاوية أخرى، حين يصرخ أحد المندهشين من تصرف إنساني لأحد من غير المسلمين ويقول «كفار وهذه أخلاقهم، ونحن المسلمين نتخلى عنها». نظرتنا للعالم من منطلق الكفر والإسلام نظرة قاصرة لمفهوم الأخلاق، لست هنا في معرض الحديث عن أخلاق الدين الإسلامي التي هي من المسلَّمات. لكن يبدو أن كثيرين يفوتهم أن الكفار هؤلاء هم مؤمنون أيضاً وبأديان سماوية يعترف بها الإسلام، وهي الأخرى -الأديان- لها قوانين والتزامات أخلاقية وإيمانية ودينية، كما أن الإنسانية تفترض على الإنسان أن يكون إنساناً، والإنسانية هي وصف ضمني للأخلاق وليس للإنسان نفسه، تماماً مثلما هي الرجولة وصف للمروءة وليس للرجل نفسه. انتشرت صورة نشرتْها صحيفة هندية تظهر قرداً في حديقة يساعد رجلين هنديين ضريرين في فتح صنبور الماء ليشربا، كان القرد متحمساً للمساعدة وكأن ملامحه تقول: «أنا أقوم بعمل خير وواجب تحتمه عليَّ الأخلاق». من مشهد آخر، ما الذي دعا الأسد الذي افترس حمار الوحش في قناة «ناشيونال جيوجرافي» إلى الحزن حين اكتشف حملها، بل وتوقف عن التهامها وأنقذ صغيرها؟. يبدو أننا نأخذ حيزاً أكبر من الصورة حين انطلقنا من الزاوية الأقرب وهي الدين، ومن ثَم للإنسانية، ويليها من الحلقة الأكبر والأوسع والأشمل وهي الأخلاق نفسها دون وضعية معينة وإطار محدد للإنسان والحيوان. هل تفترض الأخلاق قانوناً معيناً يهندسها كالدين أو كالمدنية مثلاً؟ قد يكون هذا السؤال جدلياً، فالبدو في تاريخهم لم يكونوا سوى مثال جيد لأخلاق الشهامة والمروءة والكرم أيضاً. أحاول أن أفكك مفاهيم وأفكاراً تطرأ على ذاكرتي كلما مررت بموقف مثير ما وجدال ما، تجارب محلية كانت أم غربية، يشكل المسلمون بطبيعة الحال في كثير من البلدان الغربية نسبة جيدة من مجموع السكان غالباً، هل فعلاً بإمكاننا أن نسمي المجتمعات الغربية «كافرة» وهي التي تتعدد فيها الديانات والأعراق والإثنيات؟ وهل كافرة تعني بلا أخلاق ضمنياً وقطعاً؟. ترى ما الذي يمكن أن تمليه علينا الأخلاق الإسلامية الدينية إذا لم تحدها القوانين الملزمة؟. وهل الأخلاق الإسلامية في ضمنها هي قوانين ملزمة فعلاً؟ إذن لِمَ يخالفها الناس في حين تتفق حولها القوانين والأنظمة والأعراف ربما؟. والأخلاق التي أشير إليها هنا هي السلوكيات العامة للأفراد التي تشكل المجتمع والثقافة العامة لهذا المجتمع أو ذاك، ومن ثم المدنية برمزيتها الكبرى. نحن بوصفنا بشراً نتفق جميعاً على أن الخير هو الأصل، وإذا كانت القوانين الدينية تلزمنا أن نتبعها، فهل ما تقوم بها مجتمعاتنا كافٍ فعلاً لتنظيم ثقافة الأخلاق؟، وما موقفنا من تنظيم وتأسيس عرف حضاري أو ديني عام يحدد أصغر تعاملاتنا العامة قبل أكبرها؟. ثمة أسئلة كثيرة قابلة للطرح هنا. حين ينتقص أحدهم نظيره المسلم بأنه يتشبه بالغرب، ما إطار التشبه بالغرب وما حدوده؟، هل يشمل ذلك الأخلاقيات الاجتماعية الحضارية العامة، التي تحسف عليها صاحبنا وتعجب آنفاً؟. بطبيعة الحال، لا يمكن أن نصنف مجتمعاً في عمومه على أنه أخلاقي والعكس صحيح، فكما هي طبيعة البشر متفاوتة في كل مكان، فالأخلاق تبقى عرفاً عاماً يُبرز طابع المجتمع حضارياً كان أم فوضوياً. حين تقطع الشارع وتلتزم بقوانين الشارع، حين تلتزم بالطابور فلا تتجاوز الآخرين، حين تلتزم بنزاهة العمل فلا تخالف أخلاقياته، حين تلتزم العدل فلا تبني أحكامك ضمن ملصقات تصنيفية، حين تحترم المرأة وتقدم لها حقوقها ضمن مكانتها الأساسية في المجتمع. كل هذه أمثلة يومية عامة قد توصف بأنها مستهلكة للأخلاقيات الاجتماعية البديهية. خلاصة القول، إن الضبط العام للأخلاق الذي يدعم الدين نفسه هو: القوانين والأنظمة الملزمة، يقول أرسطو في كتابه «الأخلاق»: «إن كل ما في وسع المبادئ أن تحققه في هذا الصدد هو لسوء الحظ أن تشد عزم فتيان كرام على الثبات في طلب الخير، وترد القلب الضعيف بفطرته صديقاً للفضيلة وفياً لعهدها».