قررت الحكومة بعد سنة تقريبا من الاشتباكات المتقطعة وتعدد الأحداث الدامية، أن تصنف «أنصار الشريعة» كحركة إرهابية. وبذلك تكون القطيعة بين حزب النهضة وهذه الجماعة قد بلغت أقصى درجاتها، وأصبحت المواجهة الشاملة بين الطرفين هي الفيصل والحكم، وذلك رغم اعتراضات بعض كوادر الحركة بمن في ذلك عجمي الوريمي. ما هي التداعيات المحتملة لذلك على البلاد؟. وفرت الأجواء التي أعقبت مغادرة بن علي البلاد فرصة ذهبية لأنصار السلفية بمختلف توجهاتهم للبروز على السطح، والتبشير بقناعاتهم في أرض بقيت موصدة في وجوههم بقرار ديني وسياسي. وكاد هذا التيار أن يبني لنفسه موقعا بين مختلف التيارات دون أن يصطدم مرة أخرى بالسلطة، لولا أن جزءا مهما من مكوناته قد اختار الجمع بين مهمتي «الدعوة» و»الجهاد». وهما مهمتان مختلفتان في الوظيفة ووسائل العمل، حتى لو سلمنا جدلا بأن ما يقومون به أو يعتقدون فيه يندرج ضمن معاني الجهاد. وعلى الرغم من أن أصحاب هذا التوجه قد حاولوا طمأنة التونسيين من خلال فتوى تقول بأن تونس «أرض دعوة، وليست أرض جهاد»، إلا أن الممارسة اختلفت، وتوالت الوقائع الدالة على وجود من يريد أن يجعل من تونس ممرا للسلاح نحو دول مجاورة، وفي مرحلة ثانية استعماله ضد سياسيين وعسكريين وأمنيين. ومع ذلك بقيت نقاط الاستفهام كبيرة حول هوية هؤلاء، وتتعلق بالخصوص باستراتيجيتهم الفعلية، وأهدافهم القريبة والبعيدة، وهل هم جزء من الساحة السياسية أم تربطهم صلات عضوية بتنظيمات إقليمية ودولية. سنتوقف عند أبرز العوامل التي أفضت إلى التعجيل بالمواجهة بين أنصار الشريعة وحركة النهضة. سنحاول في هذه القراءة السريعة تجنب الاعتماد على ما قدمته مصالح وزارة الداخلية، وذلك في انتظار إحالة هذا الملف إلى القضاء، باعتباره الجهة المعتمدة لبت تفاصيله، بما في ذلك مسألة التصنيف، دون أن يعني هذا التقليل من أهمية الجهود والكم الهائل من المعلومات التي وردت في التقارير الأمنية. لقد تعلمنا في ثقافتنا الحقوقية أن نتحفظ في انتظار توفر كل قواعد الشفافية، خاصة في مثل هذه الملفات الخطرة. أول الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها هذا التيار، أن قيادته لم تستوعب طبيعة المرحلة، ولم تدرك المعاني العميقة التي عكستها شعارات الثورة التونسية ووقائعها. بالنسبة لهم انهيار الدكتاتور هو علامة على قرب انتصار مشروعهم الهادف إلى أسلمة المجتمع التونسي، وتحقيق برنامجهم السياسي انطلاقا من رفضهم المستحكم للديمقراطية شكلا ومضمونا. الخطأ الثاني الذي ارتكبه أنصار الشريعة عندما اغتروا بالتوسع السريع الذي سجل في عدد المتأثرين بخطابهم خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما جعلهم يسيئون تقدير حجمهم الحقيقي، ويعتقدون بأنهم قد تحولوا إلى القوة الرئيسية في البلاد، ويتعاملون بتعال مع حركة النهضة التي يتهمونها بخيانة «المشروع الإسلامي»، وذهب بهم الظن إلى أنهم قد تحولوا إلى قوة قادرة على تعديل موازين القوى، والتصدي لكل من يجرؤ على مواجهتهم. ويتجلى ذلك في تصريحات عدد من كوادر هذا التيار. وفي عالم السياسة كل من أخطأ في تقدير حجمه أو حجم خصومه كانت عاقبته سيئة. الخطأ الأكبر -الذي يمكن إن ثبت قضائيا أن بعضهم ارتكبوه عن وعي وإصرار أن يكون الخطأ القاتل-، نقصد به اللجوء إلى حمل السلاح سواء في وجه الدولة أو الخصوم السياسيين. لقد أثبتت مختلف التجارب أن الأغلبية الساحقة للتنظيمات المسلحة التي تورطت في مثل هذه الأعمال، ارتدت على أعقابها، وفقدت أهم قادتها، وتبعثرت جهودها وأوراقها، وفقدت أي دعم شعبي، وخرجت من التاريخ من أكثر أبوابه ظلمة. هناك مؤشرات عديدة دلت على أن تنظيم أنصار الشريعة بقي غامضا في أساليب عمله وهيكلته الداخلية، لقد بدا عفويا في نشاطه، لكنه سرعان ما اتجهت إرادة قيادته نحو بناء تنظيم متعدد الأنشطة والاهتمامات، ولكل نشاط حريته في العمل. ولم يكن حازما في معالجة أوضاع العناصر المنسوبة إليه، التي حملت السلاح، ومارست التهريب أو تورطت في عمليات قتالية أو تهريب الأسلحة. وهو ما أثار شكوك المواطنين، فما بالك بالأجهزة الأمنية. ولهذا لم يفاجأ كثيرون عندما كشف وزير الداخلية عن ذلك الكم الهائل من المعلومات التي تدين تنظيم أنصار الشريعة، وذلك بغض النظر عن مدى دقتها. من الأخطاء الفادحة التي تورط فيها قادة هذا التنظيم مجاهرتهم بالولاء الأيديولوجي والتشيع السياسي للقاعدة. إن مجرد الارتباط العضوي بحركة فوق وطنية من شأنه أن يثير اعتراضات قانونية وسياسية كثيرة، وأن يعرض أصحابه إلى المساءلة، فما بالك الارتباط بتنظيم القاعدة المتهم دوليا بالوقوف وراء أكبر الأحداث التي هزت العالم والمنطقة العربية. إن هذا الأمر وحده كاف لفهم اهتمام مختلف مخابرات الدول القريبة والبعيدة من تونس بجمع المعلومات عن أنصار الشريعة. الخلاصة أن ملف «أنصار الشريعة» في تونس مرشح لمزيد من التطور، لأن إدراج هذه الجماعة ضمن الحركات الإرهابية يجعل منها تنظيما مستهدفا ليس فقط من قبل الحكومة التونسية، ولكن أيضا سيصبح محل تركيز جميع القوى الدولية المعنية بما يسمى الحرب على الإرهاب. وإذا كان هذا الأمر سيضع حدا للاتهامات الموجهة لحركة النهضة والقائمة على أساس أن تيار السلفية الجهادية ليس سوى ورقة من ورقتها للضغط على بقية القوى السياسية وابتزازها، إلا أنه من جهة أخرى قد يدخل الحركة في حرب طويلة ضد القاعدة وحلفائها داخل الساحة التونسية وعلى الأصعدة الإقليمية.