الحفظي يتوسط صديقين له في جلسة ودية (الشرق) الباحة – علي الرباعي اهتمامي بالقراءة لا يحده شيء.. وحفظت قصائد للمتنبي لم نكن نستنكر عمل المرأة ميدانياً ومحادثتها الرجال سافرت إلى مدن كثيرة.. إلا أن صنعاء وعدن أبهرتاني ثقافياً علي بن الحسن الحفظي مثقف يجمع بين مهنة الأدب ومهارة التأدب، اشتغل على اقتناء المخطوطات وجمع كماً لافتاً من الوثائق الراصدة أخبار وأحوال أزمنة مضت وقرون خلت. وكونه سليل أسرة علم وفقه وقضاء، فإنه خليط من أصالة ومعاصرة وتقليدية وحداثة.. وهنا عودة إلى البئر الأولى المتخمة بتدفق النمير من كل الجهات: بؤس وبهجة * بصفتك معنيّاً بالتوثيق ماذا بقي من حديث الذكريات؟ - والدي -رحمه الله- كان يسجل كل صغيرة وكبيرة من الأحداث التي تهم قريتنا (رجال)، شأنه في ذلك شأن أسلافه الذين كانوا يهتمون بهذا الجانب الاجتماعي لقريتنا بصفة خاصة، ولعموم محافظة رجال ألمع بصفة عامة، ولم تكن حياتي في طفولتي بؤسا خالصا، ولا بهجة دائمة، فقد ولدت في بيئة محسوبة على الوضع الاجتماعي المتوسط ماديا، وفي الدرجة المتقدمة علميا، فالأسرة «الحفظية» أسرة علم وأدب وفقه، وتربَّيت في بيت جدّي لأمي الذي كان كاتبا للعدل في رجال ألمع، حيث توفيت والدتي وأنا ابن خمس سنوات، وكان والدي -رحمه الله- معلِّما وإماما للمسجد، ومن هنا كانت تربيتي قائمة على الجد والمثابرة التي تصحبها أنواع من القسوة والمتابعة في غير عنف، وأكاد أجزم أن هذه التربية لم تكن عائقا عن ممارسة طفولتي مع أقراني بالمشهد المألوف آنذاك في قرية تحفل بالسلوك الحسن والخُلق السوي. تفاعل في المدرسة * كيف كانت السنة الأولى في المدرسة؟ - في المدرسة الابتدائية كنت متفاعلاً إيجابياً مع جيلي، إلا أنني اتخذت ابن بلدي الذي يساويني في العمر الشاعر الأستاذ علي عبدالله مهدي صديقا حميما، إذ استمرت صداقتنا حتى وقتنا هذا، على الرغم من تفرقنا في أماكن أعمالنا، لكننا كنا نلتقي في الإجازات والمناسبات، وعقدنا العزم على استمرار مودتنا. اتصال بالثقافات * حدّثنا عن رجال ألمع؟ قرية رجال أصبحت هادئة بعد أن عاشت حياة صاخبة حين كانت ممراً للحجاج (الشرق) - في زمن طفولتي، كانت قرية رجال متصلة بثقافات متعددة حيث كانت ممراً للحجاج من أعراق مختلفة من العالم، إذ كانوا يحطون رحالهم في القرية، وربما استقروا بها، فتعددت من خلال العابرين ألعاب الأطفال، وتنوَّعت في الأداء، منها ما كان يصحبه نشيد، ومنها ما يُؤدى بدونه، ومنها ما كان عنيفا، ومنها ما كان سهلا، وكلها كان يمارسها الأطفال على مختلف أعمارهم، ولم أكن بدعا من أولئك حيث لعبت، «السرى» و«الكعابة» و«أم اللي يخطيك» و«المزقيرة» و«البربر» و«هد وميش» و«ضرب لعب العرب» و«النصعة» و«خارق وجامد وفارس»، وألعاب تتعلق بالتجارة، وأخرى بالحرب، ولكن على مستوى الأطفال، وكذلك مارست أهازيج العيدين، وفرحة شهر رمضان، ومدارية عودة الحاج، وأسبوع المواليد، وغيرها كثير أكاد أجزم أنها ممارسات صنعت مني ومن أقراني جيلا يستمع الحداء بألحانه المختلفة، وجيلا تعلَّم أساليب الرجولة بالإعداد المبكر، ناهيك عما كنت أعدّ عدتي لسهرة ماتعة مع جدتي -رحمها الله- التي كانت تروي لي أنا وإخواني وأخواتي دفعة واحدة حكايات خيالية أو واقعية مما لحقت بأحداثها في سني عمرها، فتكونت لدينا ملكة الحوار والكتابة المتخيلة والنقاش المؤدي إلى النتائج المرغوبة، وكم ليلة بتنا نتصور من خلال جدتي معارك العراق والتجار وغرق السفن في البحار، التي كنا نتصورها ولم نشاهدها، وقصص قطاع الطرق ونجاة الأبطال وموت المستضعفين، وربما عرجت على قصص الغرام بين محمد وفاطمة، وهروبهما عن الأهل، ولجوئهما إلى بئر القرية، ليخرجا بعد زمن من الطهر والعفاف، فيتزوجا بمعرفة أهلهما كذلك، وقصص غدر زوجة الأب بأولاده، وتجريعهم مرارة فقد الأم والقسوة في التجويع ومنع الماء عنهم ليجدوا من المعاناة ما يفضي بهم إلى الهزال والضعف، وحينها يعلم الأب بمستوى القسوة، فينتقم بالزواج من أخرى، وهكذا نتصور المعاناة، وربما عاش هذا الخيال ردحا من الزمن، وللسعلاة والجن، وعمالقتهم وأقزامهم دور كبير في حياة طفولتي، فقد صورتهم جدتي -رحمها الله- أصدقاء وأعداء في الوقت نفسه، وأشباحا لا يفارقونني حتى عند الأكل والشرب، في مقابل تعليمي التعاويذ والآيات التي تدفعهم عني. لكن كل هذا وأكثر منه، لم يعق حبنا الشديد للدراسة والمنافسة على المقعد الأول، ومن ثم الفوز بالهدايا والهبات من أبي وجدي وبعض عائلتي. امرأة ورجل * ما أثر عبور الحاج على حس التعايش في تلك الحقبة مع شظف العيش وقلّة الموارد؟ - هذه القرية الهادئة الآن، الصاخبة فيما مضى من الزمان، في الفترة التي عشت فيها طفولتي، كانت ممراً للحاج، وهذه النقطة أعطت تنوعاً في الثقافة، في اللهجة والفن، وحتى في اختيار ألوان تزيين المنازل من الداخل، والألبسة، وخلقت جوا من التصالح في الحياة العامة، فلم يكن مستنكراً ما يجري من البيع والشراء في سوق القرية إذ كان يوما الإثنين والخميس سوقين رئيسين، إلى جانب الحوانيت المليئة بالبضائع التي ترد من الحديدة وعدن في اليمن الشقيق، ولم يكن هناك مانع من أن تقوم المرأة إلى جانب الرجل بالبيع والشراء، ولم يكن هناك مانع من محادثة المرأة والرجل فيما يختص بمنفعة كليهما، أخذا وعطاء، فهي تتسوق وتخيط ثياب النساء والأطفال وتزين البيوت وتجهز العرائس دون ممانعة من أحد، خاصة وأن صفة التخصص في المهنة تتيح الفرصة لكل منهما بممارستها بكل تمكن. والمجتمع المتصالح هنا، أتاح للمرأة التداوي في مستوصف القرية، وجلب مصالحها من السوق والدكان على مرأى ومسمع من السكان. مركز علم * هل من حادثة لها أثر؟ - أذكر بالمناسبة أن إحدى نسائنا، قد انتقلت إلى أبها تبعا لعمل زوجها، كانت عمياء نقلت لي ليلة وفاة والدي -رحمه الله- أنها رأت نورا يمتد من قبره صعودا إلى الأعلى، وأن ما كانت تحس به قد ذهب عنها، وعاد لها بصرها، وأبصرت بالفعل، وجاءت ليلتها تترحم على أبي وتخبرني وكأنها تبشرني بصلاح والدي عليه -رحمة الله-، وأرجو أن يكون ذلك صحيحا. بقي أن أشير إلى أن مكتبتي في أبها تختزن طرفا من أخبار قريتي (رجال)، تحتفظ بمجدها، حيث كانت مركز علم يأتي إليها طلابه من المنطقة بأسرها، يتعلمون ويتخرجون في مدرستها، وقد حفظوا القرآن الكريم واستناروا بمعرفة الحديث الشريف ودرسوا الفقه والتوحيد والتفسير والعلوم الأخرى، وتحتفظ مكتبتي بآثار معرفية متعددة ومعلومات ذات فائدة قيمة وهي مطروحة للجميع للقراءة والفائدة. زملاء الجامعة * ومن بقي في الذاكرة من زملاء الجامعة؟ - أذكرُ من زملاء الجامعة الأستاذ حمد القاضي وعبدالله الحامد وعلي فلاته، كانوا من ذوي مودتنا، والمسافة العلمية بيننا وبينهم لم تكن متباعدة، فكنا نلتقي صحفيا عبر مقالاتنا النقدية، وقصائدنا التي كانت تنشرها جريدة «الدعوة» زمن رئاسة الشيخ عبدالله بن إدريس لها، وكنا نلتقي منبريا في مسابقات كلية اللغة العربية في الرياض في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. خفق القلب * متى خفق القلب أول مرة؟ - خفق عندما تزوجت مبكراً من أم الحسن الفاضلة، وأنجبت أبنائي وبناتي كلهم، وقدمتهم أنا وهي يخدمون وطنهم بتخصصاتهم العالية، أما الأبناء فأكبرهم الحسن، وهو برتبة مقدم في الحرس الوطني، والحسين معلم جولوجيا في المرحلة الثانوية، وحسام مستشار في إحدى شركات التدريب الكبرى. وأما البنات فهن يعملن في مراكز تعليمية. وزوجتي سند وعون في كل مشاوير حياتي الناجحة، ابتداء من وظيفتي معلما في المعهد العلمي في بيشة، ومرورا بمحطات وظائفي، حتى صرت مديرا عاما للتربية والتعليم في منطقة الحدود الشمالية، حتى تقاعدي. * ماذا تعني لك أم الحسن؟ - هي شريكة حياة بما تعنيه هذه الكلمة صبرا وتضحية وتعاونا. نتاج أدبي * أين نتاجك الثقافي؟ - نشرت كثيرا من بحوثي الأدبية والتاريخية في مجلات متخصصة مثل «بيادر»، وجرائد سعودية، وقدمت بعضها منبريا في عدد من الأندية الأدبية ومراكز تعليمية أهمها بحث «الأثر الثقافي في منطقة رجال ألمع قبل تأسيس المملكة العربية السعودية»، وبحث عن والدي الأديب المؤرخ الشاعر الحسن الحفظي، وبحث عن الشيخ أحمد بن عبدالخالق الحفظي، قاضي قضاة الدولة العثمانية في عهده، وديوان شعر مقدم للطبع، وهناك إنجاز تاريخي كتبه سيدي الوالد عن منطقة عسير لم يبق إلا زمن يسير ثم يقدم للطبع إن شاء الله. * ما أجمل مدينة زرتها؟ - أكثرت من سفرياتي عربيا وآسيويا، وحتى أوروبيا، على قلة السفر لأوروبا، إلا أن صنعاء وعدن كانتا مبهرتين لي ثقافيا، ومثلهما لكن بدرجة ثانية تونس والقاهرة. * أبرز اهتماماتك. - اهتمامي الأول بالقراءة لا يحده شيء، فقد قرأت ديوان المتنبي، حتى كنت أظن أنني قد حفظت أغلب قصائده، ومن ثم قرأت دواوين الشعر، وكتب الأدب، وتعلقت بكتب الرحلات وكتب التاريخ، وأظن أنني قد أفدت من ذلك كثيراً. * هل تروي شيئاً من مساهماتك لخدمة المجتمع؟ - ساهمت مع مجتمعي في تأسيس النادي الأدبي في أبها، إذ تأسس في 1398ه، وشاركت في مجلس إدارته. وشاركت في عديد من اللجان المجتمعية في عسير. سيرة ذاتية علي الحفظي علي بن الحسن الحفظي، ولد في رجال ألمع في 12 ربيع الأول 1368ه، تخرج في الابتدائية 1381ه، وفي جامعة الإمام 1390/ 1391ه، تخصص لغة عربية، عمل مدرساً، ثم مديراً للمعهد العلمي في بيشة، ثم المعهد العلمي في أبها، انتقل للتعليم العام عام 1397ه، وعمل وكيلا لمعهد المعلمين في أبها، وفي عام 1403ه عمل مديرا للنشاط الطلابي، ثم مديرا للبحوث التربوية إدارة تعليم عسير، ثم باحث قضايا معلمين في وزارة التربية والتعليم، ثم مستشارا للتعليم في عسير، وبعدها مديرا عاما للتربية والتعليم في منطقة الحدود الشمالية. وفيما يخص المهام الثقافية، عمل أمين سر في نادي أبها الأدبي منذ عام 1398ه، حتى 1414ه، وعضو لجنة الأهالي والحماية الاجتماعية. وللحفظي مؤلفات تحت الطبع، منها: الأثر الثقافي في رجال ألمع من عام 1000 حتى 1351ه، وبحث عن المؤرخ الحسن الحفظي، وبحث عن الألعاب الشعبية في رجال ألمع، وبحث عن أسرى عسير الثلاثين في تركيا برئاسة أحمد عبدالخالق الحفظي من عام 1274 إلى عام 1317ه، الذي خرج من الأسر وهو يحمل رتبة قاضي قضاة المسلمين بأمر الخليفة العثماني.