بين عامي 1908 و1915 انشغل الرأي العام العلمي في أوروبا حول كشف هز الأوساط العلمية وأربكها، وتسابق المتحمسون في إثبات آرائهم، حيث تقدم الهاوي الأركيولوجي البريطاني شارلز داوسن (Charles Dawson) بكشف اعتبر في وقتها أنها الحشوة التي سوف تسد الحلقة المفقودة في نظرية نشوء الإنسان (Missing Link) وكانت جمجمة كبيرة لإنسان تم العثور عليها في منطقة «بيلت داون» من ولاية ساسيكس (Sussex) في بريطانيا، هذه الجمجمة تشبهنا بني آدم في كل شيء سوى خلل خطير في تركيبة الفك السفلي، فكل سماتها توحي بأن الفك أقرب لفك قرد! ولم يحزر أحد أن هذه الجمجمة قد اختُرعت من ألفها إلى يائها ورُكّبت من جمجمة إنسان عادي عاقل من جنسنا وأضيف إليه فك قرد من نوع «الأورانج أوتان البرتقالي»! واستمرت هذه الكذبة ما يزيد عن أربعين عاماً (41 عاماً، من عام 1912 حتى 1953) حتى تم كشف التزوير عام 1953 على يد ثلاثة من العلماء من جامعة أكسفورد، وعرف سبب التزوير ومتسببه، وأن هذا «المقلب» الذي شربه العلماء في وقتها بكل بساطة، كان سببه صراعا شخصيا من الحسد والغرور بين البروفسور ويليام سولاس (William Sollas) الذي نصب الفخ لمنافسه سير آرثر سميث وودوارد (Sir Arthur Smith Woodward) الذي كان يعمل في المتحف البريطاني في تاريخ العلوم الطبيعية. وحدث هذا التزوير في ضوء تخلّف إمكانيات معرفة عمر العظام والعلوم المساعدة لكشف عمليات التزوير. كان همّ المتحمسين أن يثبتوا في وسط الصراع الأيديولوجي أن الإنسان جاء من القرود بأي ثمن! فاتهم فقط أن يتقنوا لعبة التزوير بإضافة فكٍّ لقرد كبير إلى إنسان معاصر، فوقعوا في مطبّ مَن قبلهم، حينما تصوّروا الرحلة قصيرة إلى هذا الحدّ! نحن نعلم اليوم أن إنسان «نياندرتال» الذي هو من الدفعات الأخيرة قبل ظهور الإنسان العاقل بفترة تعود إلى حوالي 150 ألف سنة. ولم يظهر نوعنا إلا منذ حوالي أربعين ألف سنة، فيسود المعمورة وتختفي كل الأشكال الباقية بما فيها إنسان «نياندرتال» و»كرومانيون». وهذه القصة تروي عبرة كبيرة في علاقة الأيديولوجيا بالعلم. وأن العلماء ليسوا ملائكة وغير محصنين ضد الأمراض النفسية من الحسد والغرور والكذب وادعاء العصمة والقداسة.