غلاف «الحياة كما لو كانت نزهة (ويك إند)» منذ أن كانت الكلمة وكان الشعر، كان الشعراء ودارسو الشعر يختلفون ويتفقون حول ماهية الشعر ومادته، الأمر الذي شكل منبعاً ثرياً لاختلافات واتجاهات شعرية متنوعة. وإذ يشكِّل الشعر موقفاً من الوجود، يختار الشعر طريقته لقول هذا الموقف، ومن هنا حاول عدد من الشعراء اليوم كتابة القصيدة وفق مفهوم يحاول أن ينزل بالشعر من عليائه التي تضعه في منطقة المتعالي وتضع الشعر في منزلة الملهم ومنطقة الغامض. ثمَّةَ انحياز إلى مفهوم آخر للشعر يتفاعل مع الحياة بمنطق جديد ولغة أخرى تدخل في إطار الحياة اليومية بعوالمها ومفرداتها. وحين تكتب نور البواردي نصوصها في «الحياة كما لو كانت نزهة (ويك إند)»، فإنها منذ البداية تعلن انحيازها إلى الحياة بكل ما فيها، وتقترب بالشعر من اليومي والعادي، كما تعلن انحيازها إلى كتابة تتجاوز الوزن والإيقاع كما يشير إلى ذلك العنوان الفرعي على صفحة الغلاف الخارجية «نصوص»، حيث النص خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة «وفق مفهوم بول ريكور»، ومن ثم تحديد تلك النصوص في صفحة الغلاف الداخلية بأنها «شعر» ينتمي إلى مفهوم خاص مرتبط بقصيدة النثر. يحدد الإهداء في هذه المجموعة خط سير القراءة «إلى عصفورين لوَّنهما الحب فتشابها»، وتؤكد نصوصها أنها كتابة بفعل الحياة/ الحب، حيث ترسم الكاتبة حياتها بالشعر، وبه تنشئ علاقاتها مع الآخر/ الآخرين، ومع الأشياء حولها لكن وفق أية طريقة؟. بدءاً بالعنوان، تكاد تضع كاف التشبيه جداراً أو وقفة بين الحياة والنزهة في نهاية الأسبوع، إذ تقوم العلاقة بين الطرفين على المشابهة لا المطابقة، وتقف «لو»، حرف الامتناع، جداراً آخر ينفي المطابقة واحتمال النزهة والفرح والهدوء المصاحبين لها، إضافة إلى أن النزهة شيء محدود الزمان والمكان، يعود الإنسان بعده إلى ممارسة عمله وروتينه اليومي، وكأنه في نزهته يخرج عن الزمان والمكان، ليعود بعدها إلى مكان وزمان حقيقيين. هكذا تبدو الحياة فعلاً معطلاً أو معلقاً وهو ما تؤكده نصوص المجموعة التي تمتلئ بالفقد والوحدة، التي ترسم صفحة الغلاف الخارجية بعض مكوناتها: قراءة/ كتابة من حيث هما وجها الإبداع وهمُّ المبدع، فيروز وأم كلثوم، قهوة وموسيقى، ثم صورة غلافين لعملين شعريين من حيث هما اختيارات للقراءة، وكأن الغلاف بذلك يحمل مكونات الإنسان ومما يأخذه شخص ما في نزهته. في الكتابة بفعل الحياة/ الحب عودة إلى الغنائية والذاتية، حيث تصير الكتابة بوحاً ذاتياً يتوسل مفردات الحياة اليومية وتفصيلاتها، وتفاصيل ذاكرة امرأة تستدعي حبيباً غائباً حاضراً، ومن ثم تأتي هذه الموازنة بين الحب/ كلمات الحبيب وما يرتبط به من جهة والحياة بمفرداتها وتفصيلاتها من جهة أخرى (كلماتك أعرفها/ كما الحياة، تمنحني/ رغبة جديدة للنهوض من هذا/ الانكسار)، (أكتب/ أميت/ أطمس/ لأنني أحب)، ومن ثم يساوي غياب الحب الموت، (أنا أسامحك على موتي، وإلا…)، الأمر الذي ينعكس على تفاصيل الحياة التي تمتلئ بأحاسيس الخواء والفراغ وتيمة الفقد والإحساس بالوحدة، وهو ما ينعكس على كل الأشياء المحيطة (الخزانات كالبيوت المهجورة/ ما إن يغيب أصحابها حتى تشيخ كل علاقاتها الفارغة/ تنحني وتنكسر)، وهو ما يمكن ملاحظته أيضاً في: (كدت أموت، قلبي يغتابك، الماضي لا يخص أحداً، عليك أن تكون صديقي، كابوس، وغيرها). تعتمد النصوص على شعرية الذاكرة، ذاكرة الحب التي تقف جنباً إلى جنب مع شعرية اليومي، حيث تقترب الكتابة من الحياة في محاولة لتحقيق مفهوم مغاير للشعر (الشعراء خداعون ويكتبون أشياء لا أفهمها/ الآخرون الذين لا يطلقون على أنفسهم ألقاباً أحبهم أكثر/ إنهم يكتبون بشكل جيد). ومن هنا تأتي كتابة تفاصيل اليومي بلغة الحياة اليومية التي لا تعتمد على التعقيد أو الغموض أو كثافة الصورة، ومن هنا أيضاً يبرز الاهتمام بتفاصيل اليومي لامرأة مسكونة بغياب الحبيب (تفاصيل حياة متخيلة بين عاشقين، أو شجار، أو الأشياء الصغيرة التي ترتبط به) جنباً إلى جنب مع تفاصيل الحياة اليومية وأنسنتها بما يتفق ومشاعر الكاتبة، وبحيث تتحول إلى معادل للإنسان بكل حالاته (ذلك الشيء الجميل، بنكهة الصيف، قصتنا تكبر وتختير بالسر، بقدمين ترقص الشوارع، يومية، قليل من الطرافة، البنت «الولدة»، تبا… وغيرها). وقد تحاول بعض النصوص الخروج عن الغنائية والبوح الذاتي واختيار لقطات الحياة والتقاط المشاهد بما يشبه عدسة كاميرا تمر عليها كما في نص «قد يعنيك يوماً»، الذي يقوم على مقاطع يبدأ كل منها بلازمة «في الجوار»، ويحمل كل مقطع لقطة لبعض أفعال الحياة ومشاهد منها (شجر ينمو على حافة الطريق، طائر يغني لباب موصد، حافلة يستقلها أحد اللصوص، رسالة ملقاة على مقعد خلفي…)، لتأتي المفارقة في النهاية (في الجوار/ أحد ما لا يأبه بكل ما يحدث) بشكل قد يخلق حالة من التوازي بين حياة مهملة وحب غائب، ولا مبالاة الناس وفقدان التواصل، وكلاهما ضد الحياة ونقيضها. تستمد النصوص شعريتها أيضاً من اعتماد التكرار الذي يؤدي وظيفة إيقاعية وأخرى دلالية، وغالباً ما يعتمد على تكرار حرف (مثل: في، عن، من، بما)، أو تكرار فعل معين، أو كلمة تبدأ بها الكاتبة نصها كتكرار الفعل «أتوسل» في «الريح تسقط من أعلى»، حيث يوحي التكرار بمدى حالة اليأس التي تعيشها، أو تكرار جملة أو لازمة مثل «وردة في الطريق تنام وحيدة»، حيث يأتي النص في بناء دائري عبر تنويعات على حالة الوردة التي تشكل معادلاً موضوعياً للكاتبة في حالات وحدتها التي تشتد بفعل الانتظار «انتظار أن يقطفها أحد» مع تكرار من الاستفهامية الذي يبرز عمق السؤال ومدى الحيرة. غير أن التكرار يأتي أحياناً دون أن يؤدي أية وظيفة، فيرهق النص ويأتي نثرياً تقريرياً كما في نص «خذني معك». تختار النصوص أيضاً شكل القصيدة القصيرة جداً «الومضة»، وتأتي أحياناً مكثفة تكاد تحقق مفهوم سوزان برنار عن قصيدة النثر القصيرة المكثفة التي تشبه قطعة البلور (الصور الجماعية المعلقة على الجدار بها شخص مفقود/ دائماً يتنازل عن مكانه ليلتقط الصورة)، (عندما كنا نبادل كلمات العتب/ كان الآخرون يسرقون حصتنا من السعادة)، (أنهي نهاري بدمعة/ أبدأ نهاري الآخر: بدمعة/ الليل حبل غسيل أجفف عليه خيباتي)، وقصائد مثل: تشبهني إلى حد ما، ورقة خريف، يا صديقي، أفوز بالخذلان، ربما، خزانات مهجورة، وغيرها. لكن الكاتبة تسقط أحياناً في النثرية ويفقد عدد من النصوص شعريته (عن التوقف/ عن الكتابة إليك/ عن طلب أرقام هاتفك في وقت متأخر من الوحدة/ عن ارتداء الثياب التي تحب/ عن قراءة الشعر…)، ونصوص أخرى (نحو: وإلا، نفسية، غمرتني بلطفك، لا تأمنوا النجوم، مرني، كنت بك جميلة، عيناك أيضاً، منتصف الليل، وغيرها)، وإن كانت هناك نصوص تحاول أن تنجو من هذه التقريرية ومن ثقل التفاصيل من خلال المفارقة التي تأتي في آخر النص وتعطيه نوعاً من التكثيف والجمالية (مثل: بهجة ديسمبر، عن القهوة المرة، كما يتحدث السعداء، الغضب يفسد). هكذا تنحاز الكاتبة إلى نص الحياة عبر ذاكرة الحب والغياب المليء بالوحشة التي تنعكس على كل التفاصيل المحيطة، وهي شعرية ثرية نال من جمالها الوقوع في بعض الأخطاء النحوية والإملائية التي شابت بعض النصوص. شعرية تنهل من الذاتي، وتعيد تفاصيل الحياة بعد أن تلونت بعدسة المشاعر التي تحاول أن تكتب خطاباً يلامس المتلقين الذين أرسلت لهم: غرباء وسعداء وآباء وأمهات وشباباً وشعراء وفقراء وأغنياء… كل البشر بشتى أصنافهم لتخرج بهم كتابة الحب إلى أمنية بعالم خير وأقل وحشة، على حد قول الكاتبة في نصها قبل الأخير الذي اختارته غلافاً للصفحة الأخيرة من العمل، في تأكيد جديد على أن الكتابة في بساطتها هي فعل مناقض للوحشة والموت.