نجح الروائي الأردني جمال ناجي في صنع عالمه الروائي الخاص والمدهش منطلقاً في منتصف السبعينيات الميلادية من قرية بلحارث التابعة لمحافظة القنفذة جنوب غرب السعودية إذ قَدِم إليها مُعلّماً فسكنته الوجوه والأسماء والأحداث ومتاعب الإنسان، وامتص عالم القرى النائية في ذاكرة شفيفة وأعاد صياغة الأشياء من خلال ذاكرة لا تنضب إلا أن الاستحضار لن يخلو من انتقائية يتداخل فيها الواقعي بالمتخيل، والإنساني بالإيديولوجي، والثقافي والاجتماعي بالسياقات التاريخية. * ما الذي تبقى من بلحارث والطريق إليها؟ غلاف رواية «الطريق إلى بلحارث» - لا يبقى من الحروب سوى حكايات الجنود وأغنياتهم، بلحارث كانت تعيش حرباً مع قسوة الحياة، لا أبالغ إن قلت إنها خاضت صراعاً ضارياً مع الطبيعة ومع الزمان ذاته من أجل البقاء، جنود هذه الحرب هم أهل بلحارث، رجالاً ونساءً وأطفالاً، كلهم شاركوا في حرب البقاء تلك، أما أنا فقد كنت – في البداية – شاهداً على ما كان يجري، ثم وجدت نفسي واحداً من أولئك الجنود، وما روايتي (الطريق إلى بلحارث) إلا واحدة من حكايا الجنود وأغنياتهم التي لا يمحوها الزمان، لبلحارث وجهان لا يغيبان عني كلما تذكرتهما: الحزن والفرح. وجهان يشبهان زغاريد نساء بلحارث التي ما زالت أصداؤها تتردد في مسمعي، فهن يزغردن في الفرح، ويفعلن الشيء ذاته في الحزن، زغرودة الفرح مفهومة، لكن زغاريد الحزن كانت بمنزلة نداءات أو صيحات استنجاد جراء مصيبة أو حزن مفاجئ يحل في بيوتهن، خصوصاً حين تنطلق بغتة ومن دون مقدمات في ليل الصحراء العميق. * هل من حنين إلى المكان.. الإنسان.. الزمان؟ - بالتأكيد، فتلك مرحلة عزيزة من حياتي، مع أنني لست واثقاً من أن مَنْ كانوا من أصدقائي في بلحارث ما زالوا على قيد الحياة أم أنهم رحلوا، لكن هنالك اثنان أو ثلاثة من طلبتي الذين كانوا صغاراً، يراسلونني من حين لآخر عبر فيسبوك، ويذكرونني بذلك الشاب المغترب الذي كان يدرّسهم مادة الرسم، حتى أن أحدهم ذكّرني بطرفة حدثت معي خلال إحدى الحصص، فحينما كنت أشرح لهم عن فوائد الفواكه حسب المنهاج، تحدثت عن البرتقال والتفاح والمشمش، وفوجئت بأن أحداً منهم لم يعرف ما هو المشمش ولم يذق طعمه من قبل، رسمته لهم على السبورة ولم يعرفوه، فتعذر عليَّ الشرح حينئذ، ليس لقلة حيلتي، إنما لإحساسي بالحزن المفاجئ على أولئك الصغار الذين كانوا محرومين في القرى النائية. أحياناً أشعر بأن المكان الصحراوي يناديني، ويدعوني إلى خوض تجربة التأمل التي عشتها خلال وجودي في بلحارث، كنت أقضي ساعات من التأمل، تساعدني فضاءات الصحراء الصامتة، وآفاقها الواسعة، وبراءة الأشياء فيها. * ما أول مخاض تمر به لكتابة رواية ما؟ وهل من تقنية كتابية خاصة؟ - الفكرة هي أول المخاض، تأتيني كمنبه يلوح في مخيلتي ويدعوني إلى التوقف والتأمل، أقلب الفكرة وأدرس إمكاناتها الروائية، فكما هو معروف، ثمة أفكار لا تحمل إمكانات روائية، لكنها قد تحمل قابليات قصصية على سبيل المثال، في كل الأحوال فأنا أُخضع الفكرة لاختباراتي الخاصة كي أتوصل إلى إمكانية تطويرها وتحويلها إلى مشروع روائي، وإذا استقر رأيي عليها فإنني أبدأ رحلة الإقلاع التي تشكل أصعب ما في الكتابة الروائية، الفكرة هي التي تحدد نوع التقنية التي استخدمها، أحياناً أضطر إلى تغيير التقنية والكتابة من جديد، استجابة لشروط الفكرة والشخوص الروائية، ومن العبث أن يتخذ الكاتب قراراً مسبقاً باستخدام هذه التقنية أو تلك. * منذ 1977 وأنت تواظب على العمل بشكل تراتبي هل نصف عملك بالمشروع الروائي؟ - طبعاً لدي مشروعي الروائي الذي أنجزت جزءاً كبيراً منه، لكن هذا المشروع لا يريد أن ينتهي، فتفاصيله وتفرعاته ومستجداته تتوالد باستمرار، وأنا أستجيب لهذه التفرعات حين أقتنع بها، ولا يوجد ما يشير إلى نهاية لهذا التوالد في المدى المنظور، ويبدو أنه لن يتوقف إلا برحيلي عن هذه الدنيا. * أين نجد المقاربة أو التقاطع مع سيرة جمال ناجي بوضوح «في الطريق إلى بلحارث» وقت، مخلفات الزوابع، الحياة على ذمة الموت، ليلة الريش، عندما تشيخ الذئاب؟ - أشعر بأنني متناثر بين كل رواياتي، ففي كل رواية أجد ملمحاً مني، شيئاً يخصني، على شكل سلوك لإحدى الشخصيات، أو أسلوب تفكير، أو وسيلة تعبير، أو بصمة تخصني، أستطيع العثور على بصمات روحي في كل رواية كتبتها، بصمات متناثرة مستترة، بسبب المقتضيات الفنية للرواية، ثمة مقاربة ممكنة مع شخوص الطريق إلى بلحارث، وأستطيع القول الآن وبعد مضي أكثر من خمسة وثلاثين عاماً على كتابتي لها إنها مثلت براءتي الروائية التي تداخل فيها الشخصي مع الفني، مقاربة أخرى مع رواية (مخلفات الزوابع الأخيرة) ورواية (وقت) و(ليلة الريش). أحياناً أكتشف، بعد سنوات طويلة من إصدار إحدى رواياتي أن حدثاً شخصياً قد أفلت مني، وظهر في الرواية عن غير قصد. * ألم تتطلع إلى زيارة السعودية مجدداً بعد ربع قرن غياباً؟ ومتى ستأتي؟ - تقصد بعد 35 عاماً على مغادرتي بلحارث؟ نعم أتطلع إلى هذه الزيارة بشوق، وأتوق إلى رؤية بلحارث وناسها وجبالها ورمالها وما بقي من بيوتها، وكيف صارت بعد كل هذه السنين، لا يستطيع المرء نسيان ماضيه الذي يشكل جزءاً من شوطه مع الحياة. * كيف هي حظوظك مع الجوائز؟ هل يليق بالكاتب أن ينافس على الجوائز؟ أو يكتب من أجلها؟ - في تقديري، لا أحد يكتب من أجل الجوائز، هذا يجوز في اليانصيب مثلاً، أما في الكتابة الإبداعية فالأمر مختلف تماماً، يكتب الكاتب استجابة لتفاعلات دفينة وظاهرة، يضع عصارة فكره وروحه وثقافته فيما يكتب، يبث رسائله التي تشكل دليل حياة له، وربما للقارئ، ثمة غايات تسمو على مجرد الفوز بالجوائز، أما إذا جاءت إلى الكاتب أو إلى عمله فلن يرفضها وسيرحب بها باعتبارها تقديراً لاحقاً لمنجزه الإبداعي. حظوظي مع الجوائز ليست جيدة، لكنها ليست سيئة، فقد حصلت على عدد من الجوائز المحلية والعربية، كان أبرزها القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، وجائزة الصندوق العربي للثقافة والفنون. * ما انطباعك عن النتاج الروائي السعودي؟ - قرأت لعدد من الروائيين السعوديين، منذر القباني، عبده خال، غازي القصيبي، يوسف المحيميد، أميمة خميس، رجاء عالم، ليلى الجهني، وعبدالحفيظ الشمري، بالطبع هنالك تجارب روائية سعودية أخرى كثيرة لم أطّلع عليها بعد، ربما كانت أكثر أهمية أو أقل من تلك التي قرأتها، لكن بوسعي القول إن الرواية السعودية حضرت بكثافة في المشهد الروائي العربي خلال العقد الأخير. لقد دهشت من بعض الروايات، خصوصاً تلك التي تتناول الظلم وقضايا المدينة والقرية والعلاقات داخل المجتمع المديني. في الواقع، لقد أحسست بأن الروائيين الذين قرأت لهم يملكون عزما أكيداً على المواكبة والتنوير والتطوير، لكنهم يعانون من ضيق هوامش المسموح الاجتماعي. * كُلفت بعدد من المهام الإدارية، ألا ترى أن الكتابة تحتاج إلى تفرغ تام؟ - صحيح، أنا أكثر ضجراً مما قد يخطر ببالك، المهام الإدارية استحوذت على مساحات واسعة من وقتي، لكن حين تنتابني حمى الكتابة أتفرغ لها، فهي ليست حاضرة دائماً كالماء أو الهواء، إنها حالة مختلفة تحضر من دون استئذان وترغم الكاتب على التفرغ لأيام أو أسابيع، بالنسبة لي أستطيع تفريغ نفسي وقتما أشاء لأن مهامي الإدارية الحالية تطوعية. * إلام تصبو في قابل الأيام؟ وأين وصلت في عملك الروائي الأجد؟ - روايتي الأخيرة (غريب النهر) صدرت العام الماضي 2012 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، وهي الآن في طور التوزيع، الرواية الأجد التي بدأت كتابتها قبل شهور، تمثل تجربة جديدة بالنسبة لي، على مستوى التقنية المستخدمة فيها، ومفارقات أحداثها ومعاصرتها، أحاول التوصل إلى شكل روائي جديد ذي مضمون مديني، لا أدري إلى أي حد سوف أنجح في ذلك.