احتفظتُ بهذا العنوان في ذاكرتي لأكثر من عامين، وكنت وقتها في بلد أوروبي سافرت إليه عدة مرات، ولكن تلك المرة كانت هي الأطول من حيث المدة، ومن الطبيعي جداً حين يسافر الشخص إلى بلد غير بلده أن يقوم بعقد مقارنات مختلفة بين البلدين، خصوصاً إذا كان الاختلاف جذرياً في كل شيء تقريباً، وكان من بين الأشياء التي تسترعي اهتمامي حين أسافر إلى تلك الدول هو التزام الناس هناك بالأنظمة عموماً، وهو ليس بالشيء الجديد ولست أول من لاحظه ولن أكون الأخير طبعاً، ولكني أحببت المشاركة برؤية متواضعة عن تأسيس ثقافة جديدة بشكل مبسط تقودنا في النهاية إلى الاقتراب من تلك الشعوب في رقيها المدني دون التخلي عن عاداتنا وقيمنا الإسلامية التي لا تتعارض أصلاً مع مبدأ الالتزام بالأنظمة، بل وتحثنا على ذلك في كثير من جوانبها، وحتى نكون أقرب إلى ردم الهوة وسد الفجوة الموجودة بيننا وبينهم، ولا أعتقد أن هذا أمر مستحيل، سمَّيت تلك الثقافة بثقافة المشي على الرصيف، وهو أبسط الأمور التي نمارسها بشكل يومي، فالمواطن العادي الذي يذهب من بيته إلى عمله أو إلى مدرسته أو إلى السوق لابد له من أن يصادف رصيفاً في طريقه، ولاحظت من خلال تركيزي على هذا الموضوع إعراضاً لدى كثير من الناس عن هذا السلوك، إما بسبب عدم وجود رصيف أصلاً أو عدم صلاحية الرصيف للاستخدام لسبب أو لآخر، أو قد يكون الرصيف مشغولاً «محتلاً» بسيارة أو ببضاعة أو بالمخلفات أحياناً، وهنا طبعاً تقع المسؤولية المشتركة على المواطن وأجهزة الدولة وهو ليس محور حديثنا الآن، الملاحظة الأساسية هي وجود كثير من الأرصفة الشاغرة والصالحة للمشي ولكن الناس لا يستخدمونها لسبب غير واضح بالنسبة لي على الأقل، قد يكون السبب من وجهة نظر كثير من الناس أنك لن تستطيع المشي على تلك الأرصفة بشكل مريح ومتواصل بسبب طريقة تصميمها أو أنها ستنقطع في مكان ما لأحد الأسباب التي ذكرتها سابقاً، فتجدهم يختصرون الموضوع ولا يمشون عليها أصلاً ويفضلون المشي بجوارها أو حتى بعيداً عنها، أنا في الحقيقة لا أبحث في الأثر المروري لذلك السلوك فهو معروف وواضح، ولكني أبحث عن تلك الثقافة الضائعة أو المضيعة بعدم التقيد بالأنظمة والقوانين التي تضعها أجهزة الدولة لتنظيم أمور الناس، فتجد كثيراً منهم يخالفها حتى دون مبرر، يخالفها لأنه لم يتعود التقيد بالنظام حتى في أبسط أمور حياته، فما بالك بالأمور المهمة التي قد يتعلق بعضها بحقوق الآخرين ممن حوله. أرى من وجهة نظري أن تنشئة الأجيال القادمة وتوعية الأجيال الحالية على أمور بسيطة كهذه من شأنه أن يؤسس لثقافة جوهرية في حياتنا ليس لأنها تمثل فرقاً بين مجتمعاتنا النامية ومجتمعاتهم المتمدنة فحسب، بل لأنها ضرورة حتمية للمساهمة في نمو المجتمعات وتطورها وتوفير كثير من الأرواح البريئة التي تذهب جراء الاستهتار بأنظمة المرور مثلاً، وكثير من الأموال والوقت والجهد الذي يضيع جراء مخالفة كثير من الأنظمة الأخرى وتطبيق العقوبات والمماطلة في ذلك، وغير ذلك كثير، بل إني أرى ذلك هو الامتثال العملي للأمر الرباني الذي جاء في الآية الكريمة من سورة النساء «وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم……». كثير من الأمهات والآباء يوصون أبناءهم صباحاً بالمشي على الرصيف والحذر من السيارات خوفاً عليهم وهذا حقهم بالطبع، لكن ما الضرر لو زرعنا في نفوس الأبناء بأن هذا المكان هو المخصص أصلاً للمشاة حتى لو لم يكن هناك خطر عليهم من عدم المشي على الرصيف، وطبعاً لابد من أن يتطابق ذلك مع سلوك الوالدين والمدرسين الذين يراقبهم الجيل الصاعد ويلحظون سلوكهم. رمي القمامة في سلة المهملات، الالتزام بالدور أثناء الطوابير، الجلوس في الأماكن المخصصة لذلك في كثير من المواقع، عدم إتلاف الممتلكات العامة والخاصة، التقيد بالمسارات أثناء القيادة، وربط حزام الأمان، والتقيد بالسرعة النظامية، واحترام أنظمة ورجال المرور بشكل عام، وجود الموظفين على رأس العمل وتقيدهم بأوقات الدوام، الإخلاص في أداء المهام الوظيفية، أداء الطلاب لواجباتهم المنزلية، دفع الرسوم المقررة للخدمات أو المعاملات بالشكل الصحيح، والحرص على سير الأمور في مسارها الطبيعي، وغير ذلك كثير من الأمور التي يجب علينا الالتزام بها وتعليمها لأبنائنا في سن مبكرة من خلال تأصيل تلك الثقافة حتى لو اضطر الإنسان للتضحية أحياناً بشيء من ماله أو وقته أو جهده، ولكن النتيجة ستكون في المقابل عظيمة ولا تقدر بثمن، نتيجة سيجنيها الشخص وأبناؤه قبل أن يلحظ أثرها على المجتمع وما أعظمها من نتيجة، والملفت للنظر في هذا الموضوع هو أن كثيراً منا يبادر للتقيد بالنظام إذا سافر إلى الدول الغربية عموماً، فهل نفعل ذلك عن قناعة؟ أم خوفاً من العقوبات؟ أم تأثراً بالجو العام من حولنا والحياء من ارتكاب المخالفات؟ وأياً كان السبب فلن يكون هناك عائق عن الالتزام بذلك في بلادنا العربية والإسلامية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كثيراً من الأنظمة والقوانين في حاجة إلى إعادة دراسة بما يتلاءم مع الظروف المحيطة ووضع المصلحة العامة ومصلحة المواطنين على نفس القدر من الأهمية عند صياغة تلك القوانين. إن تلك الثقافة هي محور انبهار مواطنينا عند زيارتهم لتلك الدول أو الالتقاء بمواطنيهم في دولنا، مع وجود جوانب أخرى إيجابية ومهمة كالدقة في المواعيد واللطف في التعامل والحرص على الاستفادة من الوقت وغير ذلك من الإيجابيات التي تشكل في حد ذاتها ثقافات ينبغي التأصيل لها في مجتمعاتنا بشكل يجنِّبنا السلبيات الموجودة في النموذج الغربي، وقد يقول قائل إن تلك الثقافات موجودة لدينا أصلاً ولكن طواها النسيان أو علاها الصدأ والغبار لدى كثير من المجتمعات، فلم تعد تُحترم أو يُلتفت إليها نتيجة لعوامل عديدة، وهذا بلا شك كلام صحيح لكنه لا يغير في الواقع شيئاً، وربما يؤثر في طريقة التعاطي مع الموضوع للوصول إلى نفس النتيجة، فهلَّا حرصنا جميعاً على نشر تلك الثقافة على جميع المستويات ومنذ اللحظة.