ألقت شبكة الإنترنت في روع مستخدميها عند بزوغ نجمها، نوعاً من الفلسفة التي تنتهي إلى أنّ حرية الإنسان ومسؤوليته الأخلاقية هي التي تحدد نوع المادة التي يبحث عنها. صمدت هذه الفلسفة فترة من الزمن ولكن سرعان ما اقتحمت الإعلانات التجارية جُدُر الشبكة العنكبوتية، المحصّن منها والمستباح، وتسربت من بين يديها نظريتها الفلسفية تلك، فرضخت إلى قوة السوق لتضمن ديمومتها حتى من غير ضوابط. وصل الحال إلى أنّه يمكن لأي متصفح رصين للإنترنت سواء كان باحثاً عن مادة سياسية أو ثقافية أو إخبارية أن يجد على الهوامش مثلاً إعلاناً عن أجمل امرأة إيرانية ودعوة فجة لرؤية صورها المتعددة الكامنة تحت صورة الإعلان. وللآن ومنذ ثلاث سنوات أتساءل عن ثبات الإعلان بصوره غير المراعية لعامل الزمن أو الحياء وصياغته الركيكة وفكرته المفتقرة لأي رسالة يريد المعلن توصيلها للمشاهد. وفي الواقع نماذج كثيرة لاستغلال الجسد الأنثوي لأغراض تجارية، لكن هناك حادثة أصبحت حديث الإعلام وقتها، ففي يونيو عام 2011م قامت مجموعة من السيدات الإسبانيات بثورة على الاتحاد الدولي لكرة السلة، في معرض احتجاجهن على قرار الاتحاد الذي طلب من لاعبات كرة السلة تضييق أزيائهن وتقصيرها وفقاً لتصميم جديد. جاء الزّي الجديد بشروط هي: أن يرتفع طول السروال عشرة سنتيمترات فوق الركبة، وألّا يتجاوز بُعد القماش عن جسم اللاعبة أكثر من سنتمترين فقط. ولكن أكثر ما أثار اللاعبات الإسبانيات والجمعيات النسائية الإسبانية هو تصريح باتريك باومان رئيس الاتحاد الدولي لكرة السلة في هذا الشأن «نريد أن نجعل من ملابس اللاعبات أكثر أنوثة، فهنّ رياضيات في المقام الأول، لكنهنّ في الوقت نفسه جميلات، وعليه، لا بد من إظهار ذلك». لكن كان للّاعبات رأيٌّ آخر، فقد جاء في بيانٍ أصدرنه أنّ الاتحاد الدولي لكرة السلة يريد تحويل اللاعبات إلى مجرد سلعة جنسية لتزيد نسبة الجمهور في الملاعب. ورفضن أن تكون أجسادهن بضاعة للترويج لكرة السلة. كما أضافت جمعيات نسوية رافضة أيضاً لهذا القرار من منطلق أنه يعرقل مسيرة المرأة نحو الحرية، لأنّ متخذي القرار يريدون استغلال اللاعبات باعتبارهن بضاعة، وتحويل اهتمام الجمهور نحو أجسادهنّ لا أدائهنّ. وبالعودة إلى المواقع الإلكترونية فإنّه ينطبق على بعضها القول بأنّها لم تخرج عن السيطرة لأنّ الباحث عن المادة هو الذي يصل إليها ولكن الذي خرج عن السيطرة هو هذه الإعلانات التي اتجهت، بعد أن شبعت تكسباً من الإغراء الأنثوي، إلى الإغراء الذكوري. ففي الغرب وصلت الحركات الراديكالية إلى درجة الحساسية من الإعلانات التجارية التي تستخدم النساء كسلعة، وشكت هذه الحركات بعد أن وصلت إلى قمة برج حقوق المرأة، من تشييء جسد المرأة وهذا التشيؤ هو تحول (ما هو ليس بشيء) ليصبح شيئاً، وهذا يعني أن تنطبق عليه الصفات التي تنطبق على الأشياء. وفي حالة جسد المرأة فالمقصود به هو تغيير طبيعته وماهيته ليؤدي وظائف أخرى غير وظائفه وصفاته المعروف بها. وقد نادت هذه المجموعات بعدم تشييء جسد المرأة الذي تبيحه الفلسفة الليبرالية تحت حرية العمل وحرية التعبير والإبداع، لدرجة أصبحت معه المرأة بضاعة يُستخدم جسدها في الترويج للسلع، فهي من ناحية ضحية يُستهلك جسدها بغرض الاتّجار، ومن ناحية أخرى ضحية مستهلِكة في أسواق الموضة والجمال وعروض الأزياء. ووصل الحد بهؤلاء «النسويات» خاصة المتعصبات للنظرية الراديكالية أن ينادين بأن ترتدي المرأة ملابس غير جذابة في حياتها العادية وحتى في المناسبات، وألا تهتم بمظهرها كثيراً من أجل الرجل لأنّ الملابس في رأيهنّ من المفترض أن تؤدي وظيفتها فقط ولا تُستخدم لأغراض يكون الرجل طرفاً فيها أو مستفيداً منها. وبعد أن استقوت هذه الحركات المناهضة لاستغلال أجساد النساء وصورهن لأغراض الإعلانات التجارية، اتجهت الشركات التجارية للإعلان عن منتجاتها إلى الاستعانة بالرجال. واستخدمت نفس قاموس الإثارة والإغراء ولكن هذه المرة ذكورياً، فأصبح الرجل يعلن عن أي شيء حتى الجوارب النسائية. فقد قرأت لأحد الكتّاب قبل سنوات قليلة مقالاً ذكر فيه أنّ إعلاناً فرنسياً عن جوارب نسائية أتى برجل يؤدي الدور وهذا الدور ليس سوى شمّ الجورب النسائي. بهذه الوسيلة فقد وصلت الإعلانات في الغرب إلى مرحلة الابتذال بسبب الأطماع التجارية، وإن كانت لا تقصد الإغراء بحد ذاته وإنّما المصيبة أكبر في أنّها تستخدم الإغراء كمطية للوصول إلى المستهلك. وإن كانت المرأة كجسد لها تاريخ في فن الغواية، فإنّ غواية الجسد الذكوري تصبح بائنة ومباشرة بهدف واحد هو دغدغة غرائز المستهلكين المكبوتة ليعلو السعر أكثر وأكثر. وبهذا يكون الغرب قد سقط من حيث أراد أن يعلو بحقوق المرأة، فقد ضمن للمرأة حقوقها وحريتها في ديباجته الرئيسة، ولكنه اتجه إلى عهد آخر يتم فيه استعباد الرجال تجارياً وانتقل من مرحلة تشييء الجسد الأنثوي إلى تشييء الجسد الذكوري وكله بسبب سعار الإعلانات والجشع التجاري. هذا السُعار الإعلاني واستخدام جسد المرأة لأغراض التسويق لم يكن معروفاً بهذه الطريقة التي نراها في المواقع الإلكترونية العربية الآن، والسبب ليس في الانفتاح على الأسواق العالمية وحده وإنما تتجذر القضية في تنامي رؤوس الأموال المحروسة بسلطة الجشع. فعندما تستقوي الشركات التجارية بهذه الروح فإنّ ذلك يصوّر لها أنّها فوق النقد الأخلاقي، ويحميها من تقييم ما تُقدم وفقاً للأعراف الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية وتتحاشى بقوتها المزعومة ثقافة (العيب) باعتبارها تخلفاً وأنّ ما تقوم به هو الابتكار. هذا النوع من الإعلانات الذي يستغل جسد المرأة لا يشكّل امتهاناً للمرأة فحسب وإنما يؤدي إلى كوارث اجتماعية خطيرة، ذلك لأنّ المتعاملين مع الإنترنت يمرّون عليها مرور الكرام فلا رقابة ذاتية ولا رقابة معلوماتية تضع أسساً لهذه الإعلانات، فأي مبرر هذا الذي يضطر المعلنون فيه لاستخدام صورة جسد المرأة للإعلان عن سلع ربما ليست لها علاقة بالمرأة من أساسه، وأيّ أخلاق تلك التي تبيح وضع ملابس داخلية أنثوية كلعبة ذكاء. إذا كان اللهاث نحو الربح السريع لا يرعى أخلاقاً ولا عُرفاً، فليس هناك سوى نشر الوعي الذي يجب أن تُفعّله كل دولة في نطاقها المعلوماتي كي تحد من ظاهرة الغواية، ولو محلياً لأن ّالفضاء الواسع لا يمكن كبحه بقوانين أو خطوط حمراء.