لم يعد لدينا وقت لنقرأ كتاباً، بل لم تعد لدينا رغبة في ذلك، ربما لأننا في السابق كنا نقرأ لأنها كانت الوسيلة الوحيدة لحشو فراغنا البليد لا أكثر، حتى جاء العالم الافتراضي فمنحناه شيكاً على بياض نسرف فيه في هدر أنفسنا!. لم تعد للمعرفة قيمة كتلك التي تحدث عنها سيبانوزا حين عرَّف السعادة فقال «هي فرح المعرفة!»، فلم يعد للمعرفة فرح ولا حتى مأتم أو عزاء للتباكي عليها. هذه الفوضى المعلوماتية العارمة حولنا ليست من المعرفة في شيء، فمن أصول المعرفة أن تكون ذات مصداقية وهدف وتنظيم واضح يجعلها شيئاً محدداً ومميزاً عن بقية غثاء الكلام. هؤلاء الذين ينصِّبون أنفسهم كتَّاباً ومثقفين تراهم يركبون كل موجة ويركضون برفقة الضجيج ويتزاحمون تحت أضواء الحدث، حتى لو كان تغريدة تافهة من شخص تافه، لأنهم بطبعهم يرون أنهم أحق الناس بالخطب العصماء أو الساخرة أو الناقدة في أي تجمع كبير مهما كان سببه حقيراً!. الأفكار كلها تتحد في أصول واحدة مشتركة، الأفكار السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل وحتى الشخصية. لا شيء جديداً في هذا العالم سوى الظواهر المتغيرة للجوهر والدافع الثابت على مر العصور. ما يحدث اليوم هو أننا نعيش زخماً هائلاً من ثقافة الظواهر ثم نجد الناس بما فيهم المثقف والكاتب يتحدثون عن كل ظاهرة ويجعلونها مشكلة مستقلة ويصنعون لها الفروع، فيضيع نصف وقتك وأنت تتابع ظواهر كثيرة سببها واحد لا يلتفت إليه أحد؛ لأن الدافع أصلاً للحديث عن هذه الظواهر كان «الأكشن الكتابي» أو الترفيه الاجتماعي أو الاستعراض اللغوي، أو أي شيء لا علاقة له بالمعرفة الأصيلة ذات الالتزام الثقافي العلمي الصحيح!. قرأت يوماً أن شاباً أمريكياً في الثانوية سأله أستاذه عن الصين فلم يعرفها، ثم سأله عن اسم رئيس الولاياتالمتحدة فلم يعرفه!. نحن نتجه إلى ذات الخواء، شخصية عالمة بكل التفاهات الصغيرة حولها، شخصية مكونة من تغريدات مبتورة ومقاطع يوتيوب و«كيك» قصيرة ليس لعقليتها ركائز وتصورات شاملة ولا تمتلك نقاطاً مرجعية تقيس عليها القيمة والصحيح والخطأ. نحن نتحول شيئاً فشيئاً إلى «كائن حضاري داجن» يعرف مكان وعاء الطعام ومرقد النوم ومكان اللعب حتى يلقى حتفه على ذلك الحال!.