الطائفةُ فضلاً عن كونها: وجوداً كونيّاً قدريّاً فإنَّ أيَّ سبيلٍ -مهما كان مسوِّغه- يُبذلُ في السعي إلى استئصالها -أو حتى التفكير في تجفيف منابعها- هو عملٌ يأتي في الضدِّ من حركةِ السُّنَنِ، ويشي باستنزافِ جهدٍ مُضنٍ وعابثٍ، إذ تأتي نتائجهُ على نقيضِ مراداتِ أصحابه. ويتوكَّد هذا المعنى -السُّنَنِي- حين النظرِ إلى: «الطائفةِ» بوصفها ظاهرة تاريخيَّة ذات بعدٍ دينيٍّ واجتماعيٍّ. وهي بهذا لا تُشبهُ بأيِّ حالٍ: «الطائفيَّة» التي ما كانَ لها أن تُوجد إلا باعتبارها مُعطىً: «سياسياً» أساسه: المصادرة المتأصلةُ لحريَّةِ الأفراد، وما تنطوي عليه من حمولةِ الاستبدادِ الذي بدوره هو الآخرُ يسفر عن عدوانيَّةٍ لا تستقيم مع أيِّ معنىً لِتعايشٍ سِلميٍّ من شأنِه أن يبنى: «وطناً» أو أن يُحقِّق لأمةٍ شهوداً حضارياً.. إلى ذلك، يُمكن القول: إنَّ «الطائفيَّة» مُنتَجٌ سياسيٌّ بامتيازٍ، دأبُه أن يتخلَّقُ في رحمِ دعوى: «المشترك الدِّيني»، ويتأسس بنيانهُ على: قاعدةِ المصادرة لحرية الأفرادِ، وسلبهم تالياً خياراتهم الذاتيةِ، والدفعِ بهم نحو الذَّوبان، وذلك في مجموعةٍ ظاهرها الطائفةُ وباطنها: «فكرٌ سياسيٌّ استلابيٌّ» يتَّخذُ من شروطهِ «الانتهازيَّة» ذريعةً ل: «هيمنة طائفةٍ» على أخرى، بكلِّ ما يُمكنُ أن تتضمنه مفردةُ ال: «هيمنةِ» مِن المعاني التي تحيلُ على: *التباين في كل شيءٍ لِخلْقِ حالةٍ مستديمةٍ من النّفرةِ وفقَ مناخٍ من التباغض والشنآن. وعلى: *تنميط مجتمعٍ «ما» وذلك بمصادرةِ الخصوصيةِ والخيارات الفردية ومنعه من حقِّ مساواتهِ بالآخرين. وعلى: *العصبيةِ والانغلاقِ الذي يفضي بالضرورةِ إلى سُعارٍ من استقطابٍ طائفيٍّ/ مذهبيٍّ يمضي ب: «المجتمع» باتجاهٍ مسكونٍ بالاحترابِ الطائفي الذي لا ينتهي أمرُهُ إلا لمَّا يطمأن بأنَّه قد دمَّر الجميع من غير فرز!. وبمعنى أكثر شفافيةً: لِمَ يأبى كثيرون أن يفهموا: «الطائفية» على أنَّها اشتغالٌ -ماكرٌ- مِن لدن: «سياسيِّين» غالبهم من غير المحسوبين على المتدينين، وإنما توسَّلوا: «المذهبي» عنوةً، وذلك باستمراء اللعب على جُرمِ: «العصبيات» في سبيلِ تحقيقِ مصالح سياسيةٍ ليس غير. وإذن.. فلا بدَّ من الفصلِ ما بين ما هو: «سياسيٌّ» وبين ما هو: «مذهبي» ابتغاءَ أنْ نتبيَّن الأمورَ عن كثبٍ، ونكونَ على مستوى الحدثِ، رجاءَ أن نفوِّت الفرصةَ على من يتربَّص بنا الدوائرَ، بحيثُ لا نلدغ من جُحر: «الطائفية» لمراتٍ، مع أنَّ هذه الأخيرة لا تعدو أن تكونَ مسخاً تولَّد عن سِفاحٍ: «سياسيٍّ» ظاهره مذهبيٌّ وطائفيٌّ، بينما باطنُهُ سياسيٌّ وطائفيٌّ لا يرقب فينا إلاًّ ولا ذِمَّة. والمؤمَّل في العقلاءِ من الطائفتين -السنة والشيعة- أن يشتغلوا قصارى جهدهم في الفصلِ فيما بين ما هو: «سياسي» وبين ما هو: «ديني- مذهبي» ثم لا يلبثوا أن ينقلبوا إلى: «أهلهم» يبشرون بمشروعِ الفصلِ هذا، وإشاعة ثقافتهِ فقهاً في: «العوام» أعني بالعامةِ: تلك الأغلبية التي لا تعي من أمرِها إلا خبرَ الشعاراتِ. على الرَّغم مِن أنَّها هي الوقود وحطب الاحتراب الطائفي. ومن هنا.. فلا يصح مطلقاً التحليل: «الطائفي» للأحداث السياسيةِ التي ما فتئت تحيق بنا مكراً سيئاً. وما من أحدٍ لديه أثارةٌ من وعيٍ إلا ويدرك بأنَّ صراعاتنا تظلُّ سياسيةً -على سلطةٍ أو توسيع دائرة نفوذ- حتى لو تلبَّست لبوس: «الطائفة» في بعض مظاهرها. إلى ذلك، أتمنى على العقلاءِ من: «السنة» أن ينأوا ب: «الشيعة» العربِ عن المؤاخذةِ لهم بجريرةٍ لم يكن لكثيرٍ منهم أيُّ تورطٍ فيها، لا حملاً لسلاحٍ أو تأييداً بتظاهرةٍ. وما يجري في: «العراق» أو في: «سوريا» من ظلمٍ وعدوانٍ بيِّنٍ يجب أن يُدان فيه: «السياسي» جملةً وتفصيلاً، ذلك أنَّ: «المذهبي» لم يكن سوى وسيلةٍ، وليس له ها هنا حكم المقصد بأي تأول. غير أننا في مرحلتنا هذه بكبير حاجةٍ إلى: مثل محمد حسين فضل الله سابقاً.. وإلى على الأمين أو إلى صبحي الطفيلي حالياً؛ إذ بمنهجيَّتهم الواعية لجناية: «السياسي» يمكن لنا فضح: «السياسي» وتعريته قبالة: «عوام» قال عنهم الإمام الراشد علي رضي الله عنه: «هم الرِّعاع» إذ ليس لهم من الأمر شيء.! وعلى الرغم مِن تكرار التجاربِ التي تعتورنا حد الإنهاك، بتنا نعي بأنَّ: الصراعَ الذي ينبني على ثيمة: «المذهب» فيكون طائفياً بضخٍّ من: «السياسي» واستثمارٍ له، أثبت التاريخُ في حقِّهِ بكلِّ أسفارِه أنَّه الصراع الذي يُعدُّ: هو الأكثر تعقيداً من: «الصراع السياسي» وأبلغ في التجذُّر تغلغلاً بدواخلنا، ويمكن أيضاً أن يتمَّ استدعاؤه بأيِّ وقتٍ بما هو عليه من أهبةٍ واستعدادٍ، ذلك وإن مما يزيده عدوانيةً ويمنحه ديمومةً أن القتلى فيه لا يفكرون إلا في الآخرة. و بكلٍّ.. فلم لا نهتدِ بتجربةِ الخليفةِ الراشد علي -رضوان الله عليه- مع الخوارج- وتركهِ إياهم مع ورود الأمر النبويِّ بقتالهم لمن أدركهم – مع ذلك تركهم – في حال بقوا على محض طائفتهم- مع انحراف منهجهم قولاً وعملاً، وما إن انتقلوا إلى ضفةٍ أخرى، بحيث تحولت فرقتهم إلى مشروع: «سياسي» بطائفيَّة مقيتةٍ لا تجيد غير أن تحمل السلاحَ ضد أمنِ واستقرارِ السِّلم الذي تعيشهُ الأمة إذ ذاك.. حتى قاتلهم ونال شرف تحقيق وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومثل هذا الكلام يمكن أن يقال في ما كان من: «عمر بن عبدالعزيز» مع الطوائف المنحرفة اعتقاداً؛ إذ اكتفى -بخلاف من سبقه- بحوارهم ما لم يحملوا سلاحاً- بحسٍّ طائفي- يهددون على إثره أمن الدولة واستقرار تعايشها السلمي. ما بقي غير أن أقفل المقالةَ بحديثٍ يمنحنا فقهاً سنناً لدرك المعنى الثاوي في البعد الطائفي.. وبتقريرٍ من الخارج يكشفنا من الداخل جيداً: *روى مسلم في صحيحه عن سعدٍ قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم «سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا». *جاء في تقرير لمعهد «بروكينجز» الأمريكي الصادر في أبريل الماضي ما يلي: «إن الصراع بين السنة والشيعة أصبح يحتل مكانة متقدمة على صراع العرب والمسلمين ضد الهيمنة الغربية، بل إنه أصبح متقدماً أيضاً على أولوية القضية الفلسطينية، التي لم يعد كثيرون في العالم العربي يهتمون بها».