منذ جئتَ إلى هنا فقد حركت الأغصان اليابسة في داخلي، الملل والسأم غرسا جذورهما في روحي النخرة، وأنتَ سماء أفرغت مطرها على أرضي الصفراء التي عاشت جدباً طويلاً. حين أتيتَ إلى هنا لتعمل في وزارة الصناعة، وحين تقابلنا بوجهينا كنتُ صخرة قاسية، وأنتَ لم تكن إلا واحداً من الأشخاص الذين يرتدون الثياب، وتطبق على رؤوسهم «الشماغات». لم أعرف عنك سوى أنك رجل غريب وضع رحاله هنا، وقد جاء يلهث خلف الوظيفة بكل ما أوتي من قوة حتى يلحقها، ولا يدعها تفلت من قبضته حتى لو رُمي بأبشع الصفات والألقاب. اعتقدتُ أن هؤلاء الزملاء سيجعلونك حماراً تحمل أثقالهم، فهم بحركات بسيطة يعرفون ضيفهم هل ظهره يقبل الركوب عليه أم أن ظهره كتيس معاند ومشاكس؟! لكنك كنتَ تصدهم بحركات حاجبيك المقوسين الرشيقين، وموجات صوتك الجميلة تحرك ماء راكداً قديماً. كلمات بسيطة تنطلق من فمك تعيد الحياة للجسد الميت. المسافة طويلة بين مكتبينا تتخللها عدة مكاتب، أسمع أحاديثهم حينما تكون غائباً لدقائق، أدرك من نظراتهم المستعلية، وأعرف خفايا قلوبهم الممتلئة بالعفن، وأقرأ لغة إغماض عيونهم. حينما استأذنتَ من الرئيس صباح الأربعاء حتى تصل مبكراً إلى مدينتك الأحساء، هاجت جروح، وانبعثت جنازة أيام وأدتها أنا بنفسي، وتحركتْ رفات الذكريات. التفَّت حبال الضجر حول عقارب الساعة من تحديقي ومراقبتها بنظارتي السميكة منتظراً شروق شمس السبت الذي لم يكن مملاً وكئيباً كعادته. وما إن شاهدتكَ، والضجر يتمدد على ملامحك حتى فوجئتَ بهذا السلام المحرق، وهذا الاحتضان الحميم، وحين اقتربتُ من وجهكَ شممتُ رائحتها، رائحتها التي غابت خمساً وعشرين سنة. الرائحة التي لم أشمّها إلا من مسام جلدك، ربما تعجبتَ من هذا الاستقبال كاستقبال قائد منتصر، شاهدتَ عناق دموعي على جلدي المتغضن، لم أسألك عن حالتك، بل أكثرتُ من السؤال عن الأحساء وعن نخيلها وعن شوارعها وعن عين الخدود التي كنتُ أغمر جسدي بمائها، والهواء الذي يدغدغ سعفات النخيل كان يدغدغ مشاعري. سنوات طويلة وهي متربعة بساقيها الناعمتين وسط قلبي. شجون الحب في كل أطراف حياتي. ذبل جسدي، وشعيرات بيضاء استعمرت ذقني ورأسي، لكن قلبي مراهق بحبها. تزوجتُ وأنجبتُ، وكلما دفنتُ حبها بعيداً عن حياتي، واستغفرت، وأعلنتُ توبتي من حبها، أراني كطير عاشق سرعان ما يعود مشتاقاً إلى حبيبه. المكان تقيأ ما بداخله من ضجر، ورائحة المشموم افترشت أجنحتها، صرتَ قبلتي، توعدتُ الآخرين إن جرحوا مشاعرك ولو بنظرة. هم حاولوا فكاً لطلاسم هذا التحول، وأنت كنتَ تحاول أيضاً!! كلامك يحملني إلى ذكراها، وإلى الشوق والحنين، حروف ترجع إلى زمن قديم مكتنز بالحب، وتتعانق فيه الكلمات. هي من علمتني الحب والعشق، فلم أكن قبلها سوى رجل أرعن، يضرب أخواته، ويزمجر في وجوههن الناعمة، لكن صوتها الدافئ حول أشواك القنفذ إلى شعر أرنب. ضحكتك تعيد إلي ضحكتها. ركضت الخمس والعشرين سنة، ولم يغادر صوتها كياني لحظة واحدة، وأنت تغوص في بحر الدهشة، وتحاول فك تابوت من الطلاسم. وفي يوم من الأيام حين أخبرتني بأن لديك ابنة وحيدة اسمها منى، احترق جسدي، وكأنما وضعتَ الملح على الجروح، سألتُكَ عن لونها وعن عينيها ووجهها، وهل صوت ابنتك عذب كصوتها؟ وهل شعرها بنيّ ناعم كشعر منى؟ ومنْ منى؟ التعجب رفع حاجبيك الجميلين لأعلى جبهتك، نطق قلبي المعتصر ألماً لسنوات، وسرد قصة الجرح العميق. في يومٍِ هاتفتُها، ولما وَجَدتني ثقيل اللسان: ما بك؟ … أي ….؟ …. فصفعت «السماعة»، ومنذ ذلك اليوم رمت خاتم الخطبة في وجهي، وتقطع زمان الغرام. قلتَ وأنتَ ترثي حالتي: ولماذا أخبرتها؟ لا تنكأ الجروح! وغبتُ طويلاً، والدموع على مشارف الهبوط.