تحكي معلمة الروضة لبراعمها الصغار وصفاً مبسطا ومحبباً للجنة ونعيمها، تعود الطفلة الصغيرة إلى منزلها وهي مبهورة الأنفاس بالوصف الذي سمعته لذلك المكان الرائع حيث كل شيء فيه جميل ومتوفر بكثرة، تحكي لأختها التي تكبرها بأعوام عن الجنة، وتسألها في براءة: متى أذهب إلى الجنة؟. تجيبها أختها بلا مبالاة: «بعد الموت». تغضب الطفلة الصغيرة وتصاب بالهلع، تهرع إلى أمها محتجة، لا أريد أن أموت، أريد أن أذهب إلى الجنة دون أن أموت! كيف عرفت تلك الطفلة الصغيرة معنى الموت؟ ولماذا أصيبت بالفزع منه رغم أنها لا تعرفه؟ ربما سمعت عنه عبارات وأحاديث متناثرة لكن وعيها وإدراكها لا يصل إلى درجة الفهم التي تجعلها تتخذ موقفاً حاسماً كالذي اتخذته. ترى هل نختلف نحن في تصرفاتنا عن تصرفات تلك الطفلة الصغيرة؟ ألسنا رغم يقيننا بأن الموت هو مصيرنا المؤكد نمارس رفض الموت وإنكاره في كل لحظة؟ ألسنا نندهش ونعجب عندما يأتينا خبر موت فلان من الناس كأنه ليس من المعقول أن يموت أحد؟ تبدو علاقتنا مع الموت علاقة معقدة بعض الشيء، فرغم يقيننا الأكيد بحدوثه إلا أننا نبذل المستحيل لتجنبه، نجرب كل الوسائل لنحافظ على بقائنا متشبثين بالحياة لأطول وقت، بل نحاول التحايل على الموت بحثاً عن الخلود بشتى الطرق، نحب ونتزوج كي ننجب أبناء (يحملون اسمنا) بعد رحيلنا، نكتب ونرسم ونخترع ونبدع في شتى المجالات كي (يخلد) ذكرنا على مدى الأجيال. نتنافس ونتصارع ونخوض الحروب، كي نخط تاريخاً (يذكر أمجادنا) وإن كانت مضرجة بدماء غيرنا. نعرف أن الموت سنة الحياة وأنه وسيلة لإعمار الكون وتجديد شباب الأرض برحيل بشر وكائنات وولادة أخرى لكننا نظل نشعر بذات الرهبة والدهشة كلما واجهنا الموت وجهاً لوجه، لماذا؟ لأنه يهز كبرياءنا من الداخل يقتحم حرزنا الأمين الذي لا يدخله أحد ولا يعرفه سواك، غرفتك الداخلية شديدة الخصوصية حيث تحتفظ بذكرياتك وأحلامك وأفكارك وأسرارك الصغيرة والكبيرة، وحده الموت من يجرؤ على اقتحامها، على جعلها وجعلك مشاعاً بين الناس بلا خصوصية أو حجاب. لذلك نبادر إلى الهروب وإنكار حدوثه، إلى تحاشيه والتشبث بالحياة. ولكننا في لحظات معينة من الخصام مع الحياة نعود لنتطلع إلى الموت في فضول، في رغبة خفية لعبور الجسر المغلف بالضباب، في اللحاق بمن ذهب ممن نحب. تلك الرغبة في الموت التي تتجلى على استحياء حيناً وبقوة حيناً آخر تبدو أشبه بالغريزة العميقة في الإنسان، غريزة تتلاعب بعواطفة وأعصابه وأفكاره، تكون دافعاً للإبداع حيناً ومركزاً للصراعات والعواصف النفسية حيناً آخر، علماء الأحياء يعرفون جيداً أن الخلية تمر بمرحلة تقرر فيها التوقف عن العمل والانقسام وتبدأ في تدمير نفسها ذاتياً ويسمون هذه المرحلة بموت الخلية المبرمج. أليس من المنطقي أن يحتفظ الإنسان المكون من ملايين الخلايا بذات الدافع البدائي؟ ثم ألم تتعامل الشرائع السماوية مع الموت كما تتعامل مع أي غريزة فطرية أخرى؟ فهي من ناحية تحرم وتحذر من الانتحار ومن ناحية أخرى ترغب وتحث على الجهاد والاستشهاد في سبيل الله. تماماً كما تضبط غريزة الجنس عند الإنسان بتحريم الزنا والحث على الزواج!